لندن – صوت الإمارات
لفنون الديكور مرتكزات أساسية تستوجب التعامل معها بإتقان وكفاءة لضمان نتائج تراعي معايير العملية الزخرفية، وتساهم في إضافة القيم الجمالية إلى الأمكنة والمساحات وكل الفضاءات المتاحة. ولعل توازن الأحجام هو المرتكز الأول الذي تتكئ عليه عملية الديكور من أجل إضفاء بيئة جمالية ووظيفية متكاملة الشروط لإنتاج رفاهية مؤكدة.
على أن تعبير «توازن الأحجام» يبدو للكثيرين من غير المختصين بالغ الغموض، ومن أجل ذلك سنحاول هنا تبسيط مفهومه من خلال عروض مشهدية، يمكن من خلالها ملاحظة المعاني العملية لمفردات تعتبر تقنية في مجال الديكور.
توازن الأحجام، تَقَابل الكتل، الفراغ والمملوء، الارتفاعات والعروض والأطوال، الأحجام الثقيلة والأحجام الخفيفة، التماثل واللاتماثل... وغيرها الكثير من المفردات والتعابير التقنية الدالة التي تشكل مرجعيات توصيفية للمشهد الزخرفي في كل مستوياته وتنوعاته.
إن عدم معرفة «معاني» هذه المفردات والتعابير أو فلنقل «المصطلحات»، لا يعني فقدان الأحساس بتجسيداتها في الواقع. فلقد ثبت علمياً أن داخل كل إنسان حساً فطرياً بالتوازن، ومعرفة غير منطقية بالانسجام.
ولعل هذه المسألة تتضح أكثر من خلال السؤالين الآتيين: ماذا لو كان أنف كليوباترا أطول مما هو عليه؟ وهل كان وجهها سيبقى جذاباً؟
البحث عن جواب يمكن أن يقود الجميع الى ملاحظة جمال الأنف الطويل أو الأنف الكبير وبشاعته، ولكن سيكون من الصعب أن تقود الإجابات الى تغيير النظرة اليومية لأثاث كبير أو بالغ الانخفاض بالنسبة الى الجدران المحيطة به أو الى السقف الذي يعلوه.
إن علاقة الأحجام في ما بينها تخضع للقانون نفسه الذي يحكم جمالية الوجه، أو المنحوتة، أو الغرفة.
فالحكم على توازن الأحجام هو عملياً التعود على النظر الى كل شيء بالنسبة الى شيء آخر. بمعنى أدق، النظر الى الشيء ككتلة، دون تفاصيل، وعلاقته بكتلة أخرى.
وهذه العملية تحتاج الى مراجعة للطريقة التي ننظر بها الى الأشياء حولنا، ليس فقط من ناحية التوصيف، وإنما أيضاً من ناحية «تعيير» الأحاسيس والمشاعر على نحو يجعلنا أكثر حساسية وشعوراً بما حولنا، ليس فقط كأشياء مادية ولكن كأشياء تشارك في تأكيد توقنا الفطري للانسجام والتوازن.
على أن المسألة لا تتوقف عند توازن الأحجام، بل تنسحب على كل ما يؤسس لخلق بيئة جمالية ووظيفية متناسقة بين عناصرها ومفرداتها، ومتسقة مع الفضاءات التي تشغلها. فـ «زواج» الأحجام الثقيلة والخفيفة عملية بالغة الدقة أيضاً، تتطلب جرعات توازن أكثر دقة. ولعل الطبيعة تقدم مثلاً بالغ الكفاءة عن هذه العملية، يتمثل في الشجرة وأوراقها.
فالشجرة تقول لنا إن الحجم الثقيل الواحد (الجذع) يحتاج الى عدد وافر من الأحجام الخفيفة (الأوراق) لكي يحقق التوازن المطلوب. ولتقريب الصورة أكثر، يمكن القول إن كنبة كبيرة تعلوها على الحائط خلفها لوحة كبيرة، وتنبسط أمامها سجادة كبيرة، تحتاج الى قطع صغيرة حولها وأكسسوارات عديدة من أجل إقامة توازن بين الأحجام المختلفة.
وبمعنى أكثر تظهيراً، الكنبة الكبيرة واللوحة الكبيرة والسجادة الكبيرة، أشياء تحتاج الى العديد من الأشياء الصغيرة التي تعادل «وزنها»، من أجل تحقيق «زواج» متوازن بين الأحجام أو الكتل التي تتشكل منها.
خلال البحث عن هذا التوازن، يبدو من الطبيعي بروز الحاجة الى التعامل مع الخطوط، عبر البحث عن طول الكتلة وعرضها وارتفاعها. مسألة تبدو على بعض الصعوبة، ولكنها بالتأكيد تشكل ثراء بصرياً يكتنزه المكان وتكشف عنه المساحة.
إن معرفة قوانين التوازن ليست مطلوبة بالضرورة، عند الأخذ في الإعتبار تحقيق أجواء مريحة وجميلة وعملية، لأن ما يقود العملية هو إحساس فطري بالتناسق الذي يضمن الرفاهية والراحة.
والأمر يتوقف، بداية، على عملية الاختيار، فالخيارات تتطلب حداً أدنى من المعطيات الأساسية والتي تتمثل بأبعاد المكان، طوله وعرضه وإرتفاعه.
هذه المعطيات هي التي تؤسس لعملية الاختيار والتوزيع والتنسيق. لأن شَغل الفراغ يملي التنبه الى معايير أساسية لبناء مشهد منسجم بكل عناصره وكتله وأحجامه. فالفراغ هنا، يشكل البنية التحتية لعملية الديكور، على أن تكون قادرة على استيعاب كل التشكيلات التي يتيحها الأثاث، وفي اللحظة التي نبدأ فيها بتوزيع الأحجام والكتل في فراغ المساحات، سنجد إنبثاق ما يسمى التناظر أو التماثل، والذي يقابله اللاتماثل، وهنا ينبغي ألا «ترهبنا» هذه المفردات وتتحول الى عقبات أمام تمنياتنا أو رغباتنا.
ذلك أن التماثل يمثل «فضائل» زخرفية يمكننا إستثمارها بأحسن الطرق، فهو في لحظة ما يشكل دفّتَي الميزان، حيث يستويان بصرامة وبنظام لا جدال فيه، لأنه مبني على المنطق أكثر من الخيال، ولذا فهو يوفر الهدوء والسكينة المطلوبين في عملية الديكور.
وفي المقابل، يبزغ اللاتماثل ليمثل اللانظام أو «الفوضى»، ولكنها فوضى من نتاج الفن، والفن هو نظام الأشياء. فوضى اللاتماثل هنا ليست سوى مظهر، لأنها تخبئ في الواقع نظاماً أكثر سحراً وبهاء، يصعب تحصيله. فالوصول إليه يتطلب الخوض في أخطار التشكيل التي تتمثل في طلب التوازن من خلال اللاتوازن، النظام من الفوضى... والنتيجة دائماً بديعة مثل تحفة فنية.
ولعل النقطة الأخيرة التي ينبغي أن نشير إليها في معرض الحديث عن الأحجام والخطوط، هي الألوان التي لا يغيب تأثيرها عن هذه العناصر.
فالألوان تترك بصماتها على الأحجام والخطوط وأساليب التعامل معها. فهي من ناحية يمكن أن تلطف الأحجام والكتل الكبيرة، ومن ناحية أخرى يمكنها أن تضخّمها. وبالتالي يمكن أن تساهم في تعديل أوزان الأحجام والكتل وتطويعها للحصول على النتائج المرغوبة.
أرسل تعليقك