مرّت عقود على إطلاق وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" لصاروخ يبلغ من القوة ما يكفي للوصول إلى القمر، بل وأبعد من ذلك. أما الآن، تصمم الوكالة صاروخا جديدا باستطاعته الوصول إلى أماكن أبعد في الفضاء السحيق. الصحفي ريتشارد هولينغهام يطلعنا على تفاصيل زيارته لمصنع ناسا.
سيتمكن ذلك الصاروخ الأمريكي الجديد من أن يحمل 12 فيلاً كامل النمو إلى مدار حول الأرض. لكن قبل أن يحتج أي شخص على أن ذلك قد يكون سوء تخصيص لأموال دافعي الضرائب، ناهيك عن إثارة قضايا متعلقة بحقوق الحيوان، فذلك ليس إلا سيناريو افتراضي تستخدمه "ناسا" في محاولة منها لتوضيح الحجم الهائل والقوة العظيمة لمنصة الإطلاق الجديدة.
ستكون "منظومة إطلاق الصواريخ" أعلى من "تمثال الحرية"، وستزن أكثر من سبع طائرات ونصف من طراز بوينغ 747 العملاقة بحمولتها الكاملة، وستزيد قوة تلك المنظومة الجديدة عن قوة 13400 محرك من محركات القطارات.
بعد كل هذه الأرقام والمعلومات، ما نتحدث عنه هو صاروخ قادر على نقل البشر خارج مدار كوكب الأرض لأول مرة منذ أن حمل آخر صاروخ من نوع "ساتورن 5" رواد فضاء مركبة أبولو إلى القمر عام 1972.
صواريخ عملاقة؟ هل يعني هذا أن "ناسا" عادت إلى العمل والمنافسة.
تقول مهندسة منظومة الإطلاق الجديدة دون ستانلي: "سيكون هذا الصاروخ فريداً من نوعه. سيكون باستطاعته أن يعيدنا إلى القمر وما وراءه من كويكبات، وحتى كوكب المريخ، أي أبعد بكثير مما وصلنا إليه سابقاً على الإطلاق."
يقع مقر عمل ستانلي في "مركز مارشال للرحلات الفضائية" في منطقة هنتسفيل بولاية ألاباما، خلف الأسوار الأمنية العالية لـ"ريدستون آرسنال" – التي كانت لأكثر من 60 سنة موطن برنامج الصواريخ والقذائف الأمريكي. تتناثر في ذلك الموقع التاريخي، ومساحته 154 كيلومترا مربعا، مواقع إطلاق القذائف ومنصات الاختبارات وحطام أجهزة الفضاء.
تصميم متعدد الاستخدامات
تشمل البقايا الأثرية منصة ذات مظهر هش، استعملت في إطلاق أول صاروخ حمل أمريكياً إلى الفضاء. كما تجد الغلاف المعدني السميك لمركبة فضائية نووية مهجورة، من بقايا صاروخ "ساتورن 5".
ومع إدراكها لكل هذا التاريخ من حولها، تقول ستانلي إن مركبة الفضاء الجديدة صُممت لتكون متنوعة الاستخدامات، أكثر من أيّ مركبات سابقة.
وتضيف: "إذا أرادوا منّا الوصول إلى كويكب في رحلة خاصة لاسترجاع مواد معينة، فإن هذا الصاروخ سيمكنه القيام بذلك. وإذا طلبوا الذهاب إلى المريخ، فسيمكن لهذا الصاروخ أن ينجز المهمة. وباستطاعة منظومة إطلاق الصواريخ تلك أن تلبي متطلبات المهام الكثيرة التي ستريدها حكومتنا منّا."
تُبنى منصة الإطلاق في تلك المنظومة لتحمل طاقم كبسولة الفضاء الجديدة "أورايون". وقد جرى اختبارها بنجاح لأول مرة - بدون طاقم - في شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ومع أن تصميمها جديد، سوف يستفيد الصاروخ من عدة تقنيات استعملت في مساعي سابقة لوكالة "ناسا".
ستستعمل أول أربعة صواريخ لمنظومة الإطلاق قطع غيار متبقية من برنامج مكوك الفضاء. والدعائم الصلبة للصواريخ هي نماذج أطول من تلك المستعملة في المكوك؛ ويستند المحرك في المرحلة الأعلى إلى تصميم صاروخ ساتورن 5 من ستينيات القرن الماضي.
تقول ستانلي: "للانطلاق من الأرض، لا نزال نحتاج إلى صاروخ، ولذا استعملنا تقنية المكوك أبولو، ولكننا نستحدث أيضاً تقنيات جديدة. نستعمل في المرحلة الأساسية من الانطلاق تصميماً جديداً، كما أننا نستعمل تقنيات حديثة لنحصل على بناءٍ صاروخي فعّال وبسعر معقول."
الدراجات والعربات
تُبنى منظومة إطلاق الصواريخ بموقع يبعد مسافة زمنية تصل إلى ست ساعات بالسيارة جنوب مدينة هنتسفيل. إنها منشأة "ميتشاود" الشاسعة لتجميع أجهزة "ناسا" قرب نيو أورلينز. ويبلغ طول المنشأة هذه قرابة كيلومتر واحد، وكانت قد استعملت لبناء صاروخ "ساتورن 5"، واستخدمت حتى وقت قريب لبناء خزان الوقود الخارجي لمكوك الفضاء.
بسبب المساحة الشاسعة للمنشأة، يتنقل معظم العاملين في مصنع الصواريخ على الدراجات، وإذا كانوا محظوظين، فمن خلال عربات كهربائية - بشعارات "ناسا" على جانبها.
"لدينا المئات من الدراجات التي نستعملها في تنقلنا،" كما قال بات ويبس مدير الهندسة في المشروع عندما كنا نمر عبر مجموعة من راكبي الدراجات ونحن نستقل عربتنا الكهربائية. وأضاف: "في الحقيقة، كنا نفخر بأن لدينا أكبر منشأة لإصلاح الدراجات في جنوب الولايات المتحدة."
مررنا على أولى البراميل والحلقات والقباب التي ستستعمل في بناء الصاروخ الجديد. وقد جرى ترتيبها جميعا على أرضية المصنع في شكل عصري. صُنع كل واحد منها من صفائح الالومنيوم بسُمك يبلغ بضعة مليمترات فقط، لكن يتم تعزيز هيكلها عن طريق شبكة داخلية من معدن أكثر سمكا. سيتم قريباً لحم هذه الهياكل اللامعة مع بعضها البعض لتشكل النواة المركزية للصاروخ. ثم تُملأ هذه بخزانات الوقود والمحركات ومنظومة السيطرة والتحكم.
خلط المعادن
الطريقة التقنية المستعملة لوصل هذه الهياكل ببعضها البعض تسمى لحام الخلط بالاحتكاك، وتنطوي هذه حرفياً على مزج المعادن سوية.
يقول مهندس منظومة إطلاق الصواريخ برينت غادس: "اللحام عادة يعني الكثير من الحرارة والنار والدخان. أما لحام الخلط بالاحتكاك فإنه يمثل تقنية مختلفة تماماً لأننا لا نلحم المعدن بالمعدن بشكل كلي أبداً - في الحقيقة إننا نمزجهما معا. ولا يصل المعدن مطلقاً إلى نقطة الانصهار."
إنها عملية تبدو رائعة لمن يشاهدها - تُستعمل كلابات لشد لوحين معدنيين مع بعضهما بينما تُحرك ذراع دوّارة، يتم التحكم بها عن طريق جهاز كمبيوتر، لوصلهما ببعضهما. حتى أكبر عمليات اللحام لا تستغرق أكثر من بضع دقائق، علماً بأن الصفائح الملحومة تكون أكثر صلابة وموثوقة أكثر من أي شيء آخر يستخدم طرق اللحام التقليدية.
أكثر الأقسام إثارة للإعجاب في مصنع نيو أورلينز هو بدون شك قاعة التجميع النهائي، حيث يتم هنا تركيب كامل أجزاء النواة المركزية للصاروخ مع بعضها البعض. يصل ارتفاع القاعة إلى ما يعادل بناية مكونة من 17 طابقاً، وتحوي آلة لحام آلية واحدة، هي أكبر هيكل للحام بطريقة الخلط بالاحتكاك صممت حتى الآن.
يقول ويبس: "ليس الأمر مثل بناء أو صناعة شيء ما بحجم أكبر فقط. فنحن نستعمل أدوات جديدة بالكامل، لم يحدث أن صنع أحد مثلها من قبل. لكن الصاروخ الذي سنطلقه في الفضاء، هو أضخم صاروخ يُطلق من فوق سطح الأرض، وهذا في حد ذاته أمر لم نقم به مطلقا."
الانطلاق نحو المجهول
من المتوقع إطلاق أول صاروخ من منظومة الإطلاق الجديدة تلك في عام 2018، وهو ما يعني أن أمام المهندسين في منشأة "ميتشاود" و"مارشال" ما يزيد على سنتين فقط لبناء النواة الأولى، واختبار المحركات والصواريخ المساعدة، ومن ثم شحنها لإجراء عملية التجميع النهائي في مركز كينيدي للفضاء في ولاية فلوريدا.
ليس مستغرباً أن تكون أول رحلة - إلى نقطة ستتجاوز أبعد مما وصلته أية مركبة فضائية مأهولة من قبل - بدون أي طاقم على متنها.
تقول ستانلي: "سنصل إلى أبعد مما وصلته رحلات أبولو بمسافة 30 ألف ميل. يتوجب علينا أن نوازن ما بين السلامة والأداء – نريد التأكد من أننا نجازف بشكل مدروس."
يتفق ويبس مع هذا الرأي، وقد علّق على جدران مكتبه صوراً لأطقم الرواد المنكوبين على رحلات المكوكين "تشالنجر" و"كولومبيا". يقول ويبس إن الجميع في "ميتشاود" يدركون أنهم يصنعون صاروخاً سيحمل في نهاية المطاف رواد فضاء.
ويضيف: "غالباً ما يزورنا رواد الفضاء وعوائلهم، مما يساعد في تذكيرنا بأن ما نقوم به هو أمر لا يُصدّق، إننا نتشرف بذلك، ولكنه في نفس الوقت عمل محفوف بالمخاطر أيضاً."
بتوافر التمويل الكافي، من المؤكد تقريباً أن المنظومة الجديدة سترى النور وتنطلق إلى الفضاء، بعكس برامج الصواريخ السابقة. وبافتراض أن كل شيء سيسير على ما يرام بالنسبة للصاروخ وكبسولة "أورايون"، فإن أول طاقم من رواد الفضاء سيكون على متن كبسولة في أواخر هذا العقد. سيكون السؤال وقتذاك: إلى أين سينطلقون؟
لا يزال السياسيون مترددين فيما يريدون من "ناسا" أن تقوم به حيال هذه القدرة الاستثنائية. هل سيصادقون على قرار العودة إلى القمر، أم الوصول إلى كويكب (وهو أمر مفضّل حالياً)، أم القيام برحلة أكثر طموحاً إلى كوكب المريخ؟
مهما يكن القرار الذي سيتخذه البيت الأبيض أو مجلس الشيوخ، فبعد أكثر من 40 عاماً، ستكون الولايات المتحدة قادرة مرة أخرى على امتلاك الوسائل التي تمكنها من إرسال البشر إلى أبعد أعماق الكون.
تقول ستانلي: "يريد مواطنونا أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية هي الرائدة. إننا شعب نحب المنافسة ونعتقد أنه ينبغي علينا قيادة العالم في العديد من المجالات، والفضاء هو أحدها."
أرسل تعليقك