غرناطه - مصر اليوم
تُشّكل الأطباق الموريسكية عنوانًا بارزًا للحضارة الأندلسية والتي ساهم في بناء صرحها مسلمو ويهود شمال أفريقيا على حد سواء. وعادت مطابخ غرناطة ومدن أخرى في الجنوب الإسباني لتزخر بتلك الأكلات من جديد، وفتحت كثير من المطاعم أبوابها لتقديم مأكولات يعتقد أنها تنتمي إلى المطبخ الموريسكي. كما اهتم بعض المهاجرين المغاربة بتقديم أكلات من المطبخ المغربي الذي يعد امتدادًا للمطبخ الموريسكي الذي طاله النسيان لقرون طويلة. قصة عشق
للمطبخ الموريسكي، فمنذ تسعينيات القرن الماضي، لم يشغل بال الطبّاخَة الاسبانية اثبيرنزا غونزاليث غير الانكباب على إتقان أشهر الأطباق التي تعود جذورها إلى 5 قرون خلت، وترى "أن الثقافة الموريسكية بشقيها اليهودي والإسلامي قد أغنت كثيرا موائد الطعام في غرناطة وغيرها من المدن الأندلسية، و يبقى أشهرها حاليًا هو طبق "الباهية" أو "البقية" الذي يُعد من الأرز و بقايا كل شيء موجود في المنزل من دجاج ولحم وسمك".
وتضيف اثبيرنزا أنها بدأت مشروعها لإحياء المطبخ الموريسكي بمبادرة شخصية وشرعت في تقديم الماضي من أكلات موريسكية لم تكن وقتها معروفة في مدينة غرناطة مثل طبق "البسطيلة". ومع الوقت اكتشفت غنى المطبخ اليهودي الموريسكي أيضًا الذي يضم أنواعًا مختلفة من السلطة التي تعتمد أساسًا على الفواكه في تحضيرها مثل سلطة "ريخامون غرنادينو"، المحضرة أساسًا من أنواع مختلفة من الفواكه، وسلطة "بيرنيخيرا" التي تُعد بالبصل والطماطم والثوم. وتضيف اثبيرنزا "أن الأطباق الموريسكية اتسعت شهرتها مع الوقت بفضل ازدهار السياحة بالجنوب الاسباني، بحيث كان يأتي الناس إلى مطعمي من كل بقاع الدنيا". وتؤكدّ "أن تناول طبق "الباهية" أو "البسطلية" يشكل جزءًا من برنامج زيارة السياح إلى غرناطة، وهو يشبه إتمام رحلة التجول في حدائق قصر الحمراء". وتتابع "حتى أن كتًابا كبار، مثل الأديب الاسباني خوان غويتصولو والأديب المغربي الراحل محمد شكري والكاتب الانكليزي بول بيرنستون، كانوا من عشاق أطباقي الموريسكية خلال زياراتهم المتكررة لغرناطة".
ورغم أن اثبيرنزا اضطرت إلى إغلاق مطعمها بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها إسبانيا منذ أعوام، إلا أنها تؤكد أن عشقها للمطبخ الموريسكي بشقيه اليهودي والإسلامي لم ينقطع أبدًا، فهي دائمة التحضير لأشهر الأطباق لكل من يطلبه من معارفها.
وتعتبر غرناطة مدينة الأزمنة كلها، ففيها يطل الحاضر على الماضي البعيد، بل يمكن للمرء أن يعيش الحاضر وهو يتذوق أطباقًا من الماضي. و الحج إلى غرناطة، بالجنوب الإسباني، لا يُعد مكتمل الأركان دون التجول في أزقة حي البيازين الضيقة التي بدأت تظهر فيها العديد من المطاعم العربية والإسبانية التي تنفض الغبار عن وصفات من المطبخ الموريسكي القديم. فالهجرات العربية إلى إسبانيا ساهمت في إحياء المطبخ الموريسكي، ومن بين الذين هاجروا إلى غرناطة المستثمر المغربي، مصطفى بوكرين، الذي فتح مطعما للأكلات الموريسكية والمغربية في قلب حي البيازين التاريخي، ويرى بوكرين في حديث لـ"DW" أن "الكثير من الأكلات الموريسكية تغير اسمها العربي مع الزمن لتحمل أسماءًا إسبانية جديدة مثل سلطة "بيبي رانا"، وهي من أصل عربي وتشبه سلطة "الفتوش" التي تقدم في المطاعم السورية و تعتمد كثيرًا في إعدادها على الطماطم وتعد أساسا بالجزر وعصير البرتقال والقرفة".
كما أن مجموعة من الحلويات التي تقدم في أعياد الميلاد المسيحية في إسبانيا خصوصًا في مدن إقليم الأندلس تعود جذورها إلى الحقبة العربية، مثل حلويات "دولثيس دي تورون" التي تباع في محلات متخصصة. ويقدم بوكرين إلى زبائن مطعمه أيضًا طبق "المروزية" الذي يعرف القليلون فقط أنه أكلة موريسكية الأصل قبل دخولها ضمن قائمة الأطباق المغربية، و"المروزية" أو طجين "المروزية" هو من الأطباق التقليدية لعيد الأضحى، وغالبًا ما يُعد من لحم الغنم أو العجل المنحور في طقوس الأعياد الإسلامية، وهو طبق حلو، تهيمن عليها حلاوة العسل ونسمة القرفة والتوابل المختلطة.
ويضيف بوكرين أن "المطبخ المغربي، وخصوصًا مطبخ مدينة فاس، يبقى الوريث الأساسي للمطبخ الأندلسي/ الموريسكي، بحكم أنه حافظ على الكثير من الأطباق التي نقلتها العائلات الموريسكية إثر هجرتها بعد انتهاء الحكم العربي/ الإسلامي في الأندلس. و يُعد أشهر هذه الأطباق "البسطيلة" و "الطاجين باللحم" وأيضا طبق "الكسكس"، وهي كلها أكلات يقبل عليها الكثير من السياح الذين يزورون مطعمه أثناء تجوالهم بحي البيازين". ويشير بوكرين إلى أن "الكثير من الأطباق الموريسكية ضاع مع الزمن بحكم النسيان أو نظرًا لكون الراغبين في إحياء المطبخ الموريسكي يجدون بعض الوصفات تحمل مكونات بأسماء قديمة أو أن بعض التوابل التي تدخل ضمن مكوناتها لم تعد موجودة، وضاعت هذه الأطباق مثلما تضيع أية لغة قديمة عزف الناس عن التكلم بها".
ورغم أن حاضرة غرناطة، لم تحافظ تمامًا على الموروث الموريسكي، فإن بعض القرى المجاورة لها استمرت في إعداد بعض الأطباق التقليدية الموريسكية، وهو ما يوضحه بوكرين بتأكيده "من أشهر الأطباق التي حافظت عليها القرى المجاورة لغرناطة طبق "ميغاس ألبوخارينياس" الذي يتم تحضيره في منطقة البشارات المتاخمة لجبال "سييرا نيفادا"، وهو طبق يصنع أساسًا بدقيق القمح والذرة والثوم والفلفل، ويشبه إلى حد كبير طبق "الكسكس".
ويرى الباحث في التراث الموريسكي مصطفى أكلاي ناصر، والمقيم في غرناطة، في حديث لـ"DW" أن "هناك تقصيرًا من طرف الباحثين و المهتمين بالثقافة الموريسكية في إعادة إحياء هذا التراث الإنساني المشترك، فالجهود تبقى محدودة رغم الحديث المتزايد حول هذا الموضوع في السنوات الأخيرة".
ويؤكدّ أكلاي أن " الكثير من الوصفات مذكورة في مخطوطات موجودة بمكتبة "ساكرا مونتي" بغرناطة، لكن لا تتناولها إلا يد باحثين قلائل لا يبادرون بإخراجها إلى حيز الوجود حتى يتعرف عليها العموم، وخصوصًا مهنيو الطبخ في إسبانيا".
وينهي أكلاي حديثه موضحًا أن "مدينة غرناطة خسرت عمومًا رهان الحفاظ على تراثها الموريسكي فيما يخص فن الطبخ، لأن الكثير من الأطباق الموريسكية التي كان يمكن أن تحقق نجاحًا كبيرًا وتجلب الكثير من السياح طالها النسيان وطمرت تحت التراب، ويحتاج الأمر الآن إلى مجهود كبير لبعثها من رمادها مجددًا".
أرسل تعليقك