أصبحت ظاهرة تشغيل الأطفال من بين الظواهر السلبية التي تشق طريقها بشكل سريع في مدينة مراكش مثل باقي المدن المغربية الكبرى، والتي تنتشر في صفوف الأطفال الأقل من 15 عامًا، وذلك لأسباب عديدة ومتنوعة وهي الظاهرة التي باتت تؤرق كاهل السلطات الحكومية وجمعيات المجتمع المدني والمنظمات الحكومية وغير الحكومية التي تهتم بالطفل وشؤونه.
فهذه الظاهرة صارت تبصم المشهد المجتمعي بكل خسارته و إعاقاته الممكنة التي تؤكد على انتشارها في المجتمع بشكل موسع بين صفوف الأطفال الذين يتخبطون في مختلف تضاريس المجتمع يعيشون التعنيف والاستغلال والحرمان كرهًا وخطًأ من طفولتهم داخل البيوت كخادمات من الدرجة الأخيرة، وفي المعامل والورشات الصناعية كإجراء بلا أجرة وعبيد في عالم اللذة والآلم، وعمال جنس على درب السياحة الجنسية من أجل إرضاء رغبات السياح الأجانب من كبار السن والشذوذ جنسيًا، وللخوض أكثر في هذه الظاهرة الخطيرة والمتفشية بشكل كبير في أوساط المجتمع المراكشي.
وأجرت "المغرب اليوم" هذا التحقيق الذي استقينا من خلاله أراء مختلفة وتعرفنا على أسباب ودوافع ونتائج هذه الآفة السلبية التي تعتبر من أخطر الآفات المجتمعية.
وكشف أحد الأطفال محمد (11 عامًا)، خلال تصريحه لـ"المغرب اليوم" أن أسباب دخوله إلى مجال العمل هو الفقر الذي نعاني منه فوالدي معاق جسديًا منذ أكثر من أربع سنوات، مُبينًا أن والدته تعمل خادمة في أحد الرياضات التقليدية في المدينة العتيقة؛ ونظرًا لكثرة المصاريف والحمل الثقيل الذي أصبحت والدته تحمله لم تعد قادرة على التكفل بمصاريف مدرستهم الشئ الذي جعله هو وإخواته الأربعة بترك المدرسة؛ ليتجه إلى العمل، كما أنه أصغر إخواته.
وأوضح أنه يعمل في ورشة الحدادة مساعد لصاحب الورشة الذي يدفع لي ما يقارب 150 درهمًا في الأسبوع، وأتعلم الحرفة من صاحب الورشة بأصولها وعراقتها حتى يسطتيع أن يكون شخصًا محترفًا في هذا المجال، مُبينًا أن من أحلامه هو فتح ورشة خاصة به مستقبلاً.
وأضاف محمد، أنه يحلم بأن يكون مهندسًا، ولكن ذلك لم يتحقق، مُشيرًا إلى أنه لافائدة بين حداد ومهندس، طالما كلاهما يقومان بشئ لفائدة الصالح العام.
ومن جهته، أكد صاحب ورشة الحدادة السيد إبراهيم (45 عامًا)، خلال تصريح لـ"المغرب اليوم " أنه وافق على تشغيل محمد معه وغيره من الأطفال؛ ليس بهدف استغلالهم بل بهدف تعليمهم الحرفة ومساعدتهم على تعلم شئ ينفعهم في المستقبل ويكون بمثابة السند لهم عند الحاجة، ومحاولة إبعادهم عن الشارع الذي يؤدي إلى انحرافهم وتعليمهم سلوكيات غير أخلاقية والدخول في متاهات التشرد وتعاطي المخدرات والانحراف عن طريق الصحيح.
وأشار إبراهيم، إلى أنهم يعطيهم أجرًا نظير عملهم، والذي يضاعفه دائمًا مع تطور الأطفال وازديادهم لمهاراتهم، مُشددًا على أنه لا يضيع أجر أحد عماله من الأطفال ولا يخدعهم على الإطلاق.
وصرح الطفل عبد الكريم، (14 عامًا) أنه يعمل في أحد المطاعم الشعبية نادل، مُبينًا أنه اضطر إلى العمل بعد أن وجد صعوبة في اكمال دراسته فهو لايرغب في التحصيل العلمي، والحصول على الشواهد وتعليقها في جدران البيت كما فعل أخوه الأكبر الذي قضى نصف عمره يدرس ويحصل الشواهد دون فائدة ودون أن يجد عملاً.
وأضاف أنه أخيه قد تخرج منذ ستة سنوات وهو حاصل على أجازتين ولم يجد عملاً بعد رغم إجرائه العديد من المقابلات والدورات التكوينية إلا أنّه بقى يعاني من البطالة إلى الآن، الشيء الذي جعله يكره الدراسة ويحاول منذ أن كان في السنة الرابعة إبتدائي وأن يتركها، إلا أن أسرتي ترفض ذلك، مُبينًا أنه كان يسمع توبيخًا دائمًا لكن دون فائدة فقد ترك فصول الدراسة بعد تدهور مستواه وصار يرسب كثيرًا إلى أن تم فصله.
وهكذا اتجه إلى سوق العمل، حيث عمل حمالاً في سوق الجملة ثم بائعًا في إحدى المحلات التجارية، ثم مساعد نجار، وأخيرًا اتجهت إلى هذا المطعم الذي يعود إلى ملكية أحد جيراننا والذي عرض عليا أنّ أساعده في الخدمة على الرواد مقابل 300 درهم في الأسبوع ووافق بالتأكيد، حيث أجد نفسي مستقلاً املك المال ولا أطلبه من أمي أو أبي.
وأضاف ساخرًا أنه ساهم في مصروف البيت رغم أنه لا أملك شهادة جامعية، بينما أخوه مازال عاطلاً ويعيش تحت سقف المعاناة ويعمل مع أحد الجباسين مساعدًا رغم أنه مجاز، مُتسائلاً "فما الفرق بيننا إذن؟".
وتضيف سعيدة ربة بيت، تبلغ (52 عامًا) أم لأربعة أولاد، خلال تصريح لـ"المغرب اليوم" رغم أنه رفض ظاهرة تشغيل الأطفال الأقل من 15 عامًا، ورفضت بشكل قاطع مسألة عمله، إلا أنّه لا ينصت إليه، حاولت منعه ما جعله يهرب من المنزل ويختفي عن الأنظار مدة شهر، بحث فيها في كل مكان ولم يترك أحدًا من معارفنا إلا وسألته عن ابني البالغ (12 عامًا)، الذي وجدته بعد مدة طويلة وبمحض الصدفة يعمل عند حلاق في حي الداوديات.
أوضح أنّه حاوله إرجاعه للبيت إلا أنّه اشترط علي العودة مقابل تركه يعمل، وألا يعود إلى المدرسة، وقبل ذلك لأنه لا يريد لابنه أن يعيش بعيدًا عنه رغم أنه سمع انتقادات كثيرة من جاراته اللواتي أخذنّ في لومي لعدم قدرتي على التحكم فيه والسيطرة عليه وأنّه تمكن من هزيمتي رغم صغر سنه، إلا أني أخذت الأمور من الجانب الإيجابي فيه ليس لأني لا استطيع السيطرة عليه لكن لا أريد ذلك، فهو ليس في حرب مع ابنه، حيث يفضل أنّ يرضخ إلى رغبته عوضًا عن تركه للمنزل ويتجه إلى مكان يجهله، حيث يعمل الآن عند ذلك الحلاق الذي يعامله بشكل جيد، وهو يراقبه من حين لآخر، ويحاول بين الحين والآخر أن يقنعه بترك العمل والعودة إلى المدرسة إلا أنه يرفض ذلك.
كما أشار سعد طفل يبلغ 13 عامًا إلى أن العمل في سن مبكرة شاق جدًا والظروف هي التي فرضت عليه الخروج إلى العمل، والفقر والمعاناة التي يعيشها في المنزل كانت دافعًا قويًا جعلته يخرج للبحث عن عمل، ليساعد أسرته التي تعيش حالة فقر مزرية، حيث عمل في البداية بايع للمناديل عند إشارات المرور ثم في إحدى محلات بيع السمك وعمت في بيع السجائر، وتوزيع الجرائد إلى أن استقر به المطاف في العمل «دار الدباغ» الخاصة بتنظيف الجلود، حيث أصبح يحصل على راتب مرتفع بعض الشيء يساهم في مساعدة أسرتي المتكونة من والدته وإخواته الثلاثة اللواتي يدرسن في الابتدائي، مُبينًا أنه يعود مساءً منهكًا جدًا من كثرة العمل، ومن الضغوط الكثيرة التي أعيشها في المدبغة، فضلاً عن التعامل السئ الذي يعاني منه من طرف العمال الأكبر مني سنًا ليس هو فقط بل كل الأطفال الذين يعملون في ذلك المكان لكن ليس لدينا خيار آخر، ولم يخرجوا إلى العمل إلا لأنهم بحاجة ماسة إلى المال.
واستطرد أنّ أكثر اللحظات التي تجعلني أشعر بالآسى هي عندما يرى الأطفال الذين في مثل سنه ذاهبون إلى المدرسة التي لم أجلها يومًا ولا يعرف كيف هي ولا عن أجواء الدراسة داخل الفصل، قائلاً: "تمنين دومًا أن أكون تلميذًا لأحقق حلمي وحلم أبي وهو أن أصبح شرطيًا لكن هذا الحلم أصبح الآن صعب المنال".
وتابعه التلميذ في الصف الثالث الإعدادي أحمد، (14 عامًا) أنه يعمل بالموازاة مع الدراسة، وذلك يرجع إلى رغبته الكبيرة في مساعدة أبيه الذي يعمل في بيع النعناع والأعشاب في السوق، حيث يقول: "كنت أرافقه وأنا في السادسة من عمري وأساعده وتعلمت أصول التجارة وتفاصيلها وصرت الآن أذهب في الفترات التي لا تكون عندي دراسة إلى السوق حيث أنجز عملي كما أني استلم مكانه في العطل، وقد خصص لي راتبًا خاصًا بي".
واستكمل حديثه: "كنت في البداية أرفض الذهاب معه إلا أنه كان يرغمني على ذلك، إلى أنّ أدمنت العمل الآن وصرت غير قادر على تركه أبدًا حتى أني صرت الآن أذهب فترات عديدة وأحل مكانه في عدد من الأسواق في مراكش، وأنا غير نادم على ذلك، لاسيما أني أدرس جيدًا ولم أرسب يومًا".
وفي هذا الصدد، يشير استاذ علم الاجتماع عبد الرحيم العثماني، إلى أن ظاهرة تشغيل الأطفال من أكثر الظواهر السلبية التي باتت تجتاح المجتمع المغربي رغم أنها ظاهرة ممنوعة قانونيًا، حيث تشير المادة 143 من مدونة الشغل إلى أن تشغيل طفل دون سن الخامسة عشرة، حيث ينتهي بالمشغل إلى أداء غرامة مالية تتراوح ما بين 25 ألف و 30 ألف درهمًا، ويمكن أن تصير العقوبة سجنًا نافذًا من ثلاثة إلى ستة أشهر في حالة الرجوع لارتكاب نفس الجرم، مع أداء الغرامة بشكل مضاعف، وتشير أرقام مديرية الإحصاء إلى أن عدد الأطفال المشغلين في المغرب والذين تتراوح أعمارهم بين 7 و14 سنة، تجاوز 600 ألف طفلاً دون احتساب الأطفال الذين تقودهم ظروف الهشاشة والفقر إلى الدراسة والعمل في آن واحد، فضلاً عن الأطفال غير المصرح باشتغالهم، والآخرين الذين يتعذر حصرهم بدقة متناهية من الذين وصفهم تقرير منظمة "هيومن رايتش" الأخير بأنهم أطفال داخل البيوت خارج القانون، وهي نفس الأرقام تؤكد أنّ %78 من الأطفال المشغلين هم من آل العالم القروي ويعملون في الغالب كرعاة ، في حين يشتغل أطفال المدن في قطاعات النسيج، والتجارة والأعمال المنزلية وورشات إصلاح السيارات والحدادة والنجارة وغيرها من الحرف التقليدية.
وأشار العثماني، إلى أنّ هذه الظاهرة الشاذة بدأت تتوسع وتنتشر في كثير من دول العالم وخاصة النامية منها، حيث يلاحظ أنّ ملايين الأطفال في بقاع كثيرة من العالم واقعون في شراك أعمال لا يمكن أن يتقبلها العالم المعاصر، ولا تكاد تسد حاجيات تلك الشريحة المتعبة، وأنّ حاجة تلك العوائل لتأمين سبل عيشها وتنويع مصادر دخلها تجبر أبناءها من كلا الجنسين نحو الاشتغال بأعمال شاقة وصعبة تفوق سنهم وترهق جسمهم الصغير، حيث أنّ بيئة العمل لهؤلاء الصغار تجعلهم يتعودون على ممارسة عادات سيئة لا تتناسب وأعمارهم الفتية، والتي يفترض أن تكون هذه الفئة في حضن ورعاية المدارس والمؤسسات التأهيلية، على العكس مما هم عليه من عادات غريبة في مرحلة خطيرة من مسيرتهم نحو تسلق سلم التربية القويمة، وارتكاب الأخطاء التي تحيط في جو العمل الذي يعمل فيه هؤلاء، مثل التدخين وتناول المشروبات الكحولية والإدمان على المخدرات وما يصاحبها من عمليات العنف الجسدي والاغتصاب الجنسي في أحيان أخرى والتي تؤدي إلى وضعهم تحت تأثير عوامل نفسي ضاغطة تدفع بهم نحو الإجرام نتيجة الحقد الذي يتولد عندهم بسبب الحرمان واليأس والقنوط، وما تسببه من عرقلة نموهم العقلي والجسمي والخلقي، وما ينتج عنه من سلوكيات متمردة ضد المجتمع الذي يعيشون فيه.
ويضيف عبد الرحيم إلى أنّ هذه الأحداث الكارثية تدفع بهم نحو التشرد والضياع لأنها تفوق قدرتهم على الاستيعاب والتحمل مما يخلق حالات دفينة قد تظهر في مراحل متعددة من أعمارهم من خلال السلوك المتمرد العدواني والمكبوت والتخلف الدراسي والقيمي من هذه الأوضاع القاسية وما تسببه من نتائج خطيرة على المجتمعات، ما يتطلب أنّ يكون هناك نوع من الالتزام الأخلاقي الجاد لكافة دول العالم بأنّ تعمل الآن لوقف ممارسات التشغيل التعسفي لتلك الشريحة من البشر بالرغم من أنّ حقوق ورفاهية الطفل تشكل الشغل الشاغل للعالم أجمع وخاصة المتقدم، ليس لكون الطفل إنسان فحسب، بل له حقوق قبل غيره من فئات المجتمع إضافة لكونه في فئة عمرية تحتاج بشكل خاص لعناية ورعاية كبيرة ورفع كل أشكال العنف والاستغلال عنه فهم آمال البلدان ومستقبلها فلا مستقبل لأمة ما لم تعتني بأطفالها.
وأضاف أنه مهما اختلفت الظروف والأسباب التي تدفع الأطفال الأقل من 15 عامًا إلى الشغل والعمل، فهي تبقى ظاهرة خطيرة يمنعها القانون ويحذر من الإقدام عليها، لاسيما أنها ظاهرة خطيرة أصبحت تتفشى بشكل كبير في المجتمع المغربي، لاسيما في المدن الكبرى للمملكة كمدينة مراكش التي باتت تجتاحها آفة تشغيل الأطفال بشكل موسع ومن الجنسين، دون احترام القوانين أو احترام لجسد هؤلاء الأطفال الصغيرة التي تحتاج إلى الرعاية والحب والحنان أكثر من أي شيء آخر في الوجود، لاسيما أنهم أطفال يعيشون تحت وطأة الحرمان من كل حقوقهم سواء في الدراسة والأكل والنوم والراحة والاستجمام وحتى في أبسطها وهي اللعب.
واختتم أنه ما يتطلب أنّ تكثف الجهود من طرف الجهات المسؤولة من سلطات أمنية وحقوقية وجمعيات المجتمع المدني ومواطنين للحد من هذه الظاهرة السلبية التي تهدد سلامة أطفال مجتمعنا المغربي.
أرسل تعليقك