عمان ـ وكالات
إن نبش نصوص البادية واستنطاقها يرسم ملامح الفعل الحياتي اليومي والمجتمعي عند عرب البادية أصحاب هذه النقوش، فقد بدت سيرة المرض والألم والحزن واحدة من معكوسات قسوة الحياة عبر قرون وجود أصحاب هذه النصوص.. وهي مؤشرات تنبش وجدان المجتمعات العربية تجاه الموت والفراق والحزن والمرض، وقد يكون هذ المشهد سمة طاغية في مجتمع متنقل يبحث عن سبل العيش القليلة التي يتحتم عليه تقاسمها مع غيره من قبائل العرب’. هذا ما قاله الدكتور سلطان المعاني، في ندوة أقامتها مؤخرا ‘لجنة منتدى عمان’ حول ‘نقوش الحرَّة’، وأدارها د.هاني العمد في ‘منتدى الرواد الكبار’، بحضور المهتمين. وجاء في ورقة مطولة عنوانها ‘نظرات ثقافية حضارية معرفية في نقوش ما قبل الإسلام العربية’ للمعاني والذي يعمل حاليا في معهد الملكة رانيا للسياحة والتراث- الجامعة الهاشمية- الأردن، ‘إنّ كتابات الحرة أو كتابات البادية أو الكتابات الصفوية نصوصٌ تركها لنا عرب ما قبل الاسلام في الفترة الواقعة تقديراً بين القرنين الثاني قبل الميلاد والرابع الميلادي في مناطق البادية والحرات الأردنية وجنوب سوريا امتدادا على طول وادي السرحان مختلطة بالنقوش الثمودية في منطقة شمالي الحجاز′. اكتشاف عشرين ألف نقش كلها باللغة العربية ويوضح المعاني مدير مشروع المسح الميداني لكتابات الحرّة الاردنية (الصفاوي)- ضويلة والعوسجي الجنوبي 2012، ‘ان امتداد هذه القبائل كان في الحرة من جنوب شرقي سوريا على طول شمال شرق الأردن ومنها من سكان شمالي السعودية، وفي هذه الصحارى الشرقية تم اكتشاف أعدادٍ كبيرة من النقوش الحجرية والتي تفوق عشرين ألف نقش… وكلها باللغة العربية. إن مجتمع العرب الصفويين مجتمع قلق في كثير من مظاهره، فتوثق النقوش للابتلاءات، ولما يثلج الصدر ويبعث على الحزن والانقباض. وقد ورد كل هذا في مترادفات تعكس طغيان الحال عما سواه. إن الإكتشافات الحديثة الخاصة بالقبائل العربية في جنوبي وأواسط وشمالي جزيرة العرب، والوثائق المكتوبة التي تشير بوضوح إلى تفاعل هذه القبائل مع القوى الكبرى التي تعاقبت على امتداد جزيرة العرب تحتاج إلى رؤية أكثر وضوحاً عن المجتمع القبلي العربي فيها. ولعل القبائل العربية، ومنذ بدايات تكوينها وتفاعلها مع جغرافيا وديموغرافية بلاد العرب الجنوبية على امتداد أصقاعها، قامت بنفس الدور الذي قامت به القبائل العربية في شمالي الجزيرة العربية حتى بادية الشام الشمالية، ذلك الدور الذي يتمثل في البناء؛ بناء المكان، وبناء الإنسان’. مدونة الواقع أم العالم الموازي له.. ويذهب المعاني للقول ‘لا ندري بدءا مدى مطابقة محتوى النقوش في حيزها المكاني للواقع.. ولا نعلم إن كان مضمونها مدونة الواقع أم العالم الموازي له، يتشكل وفق مشتهى النّقّاش.. فإذا كان النص النقوشي عالم صاحبه الضيق ومَبَثَّ شعوره.. فهل يصل إلى المتلقي بُعداً معرفيا يُعوَّل عليه في فهم بيئته المكانية؟ وهل تَمَلّك صاحبُ النقش أو مجموعة النقوش في جغرافيتها اللامة الإحاطة بما حوله؟.. فكلما اقتربنا من أكوام النقوش في رجومها.. ندرك حجم الهوّة التواقة للردم بين ما نعرف ويعرف أصحاب تلك النقوش. إنّ النقش عالم صاحبه الوجداني والمعرفي المُسطّح.. لا يعنيه من الفراغ الممتد حوله إلا شفار ما يُشكل مصيره.. لا تشي النصوص النقوشية بالمجمل بمتخفٍ.. عدا ما يتلو صيغ الدعاء من رغبات ودعوات تواكلية بتصيّر الحال.. أو ما يجاور النص من رموز ورسومات نقاربها مع النص تأويلا، والسؤال: هل نترجم النقوش، كما فعل علماء الاستشراق، الذي شغلوا بالنصوص السامية؟ أم نتفهمها؟ مستثمرين قرابتنا الجغرافية والتاريخية واللغوية والأنثربولوجية وربما الإثنية مع أصحابها؟.. فنقارب بين المدلولات والعلل.. ونستثمر الموروث في ترميم النصوص وبعثها على نحو سردي تراتبي! ويقرُّ المعاني ‘أنّ عالَم النقش محدود، وذاتي، ولكن له في أعماقنا، أفراداً ومجتمعاتٍ، ما يمكن العثور عليه؛ فسلسلة النسب، وجمهرة التضرعات.. وبقايا المفردات تتموضع واقعا مُتقبَّلاً، نتظاهر حوله قبولاً أو نكراناً، ونعيه متكأً ثقافياً أولياً يؤازر المشترك التراثي. وهو ما يمنحنا فرصة رسم مسارات الأنشطة والمعارف والمفردات المحفورة في النصوص النقوشية من لحظات تَخَلُّقِها في عالم أصحابها إلى لحظة المتلقي، الذي ينبري لبناء هيكل المقاربة الإثنو- أركيولوجية والاشتقاقية، دون إعفائه من البرهنة والاستدلال، مع منحه فسحة التهويم والتأويل والتخمين لجسر الهوة التي يفرضها صمم النقوش وقصرها’. ويؤكد المعاني ‘أن حدود التواصل في مجتمعات البادية عند العرب قبل الإسلام، الطبيعية والاجتماعية، تتجلى من خلال عدد من المواقف الاتصالية التي تطرحها النقوش، ومنها: حد الانتماء القبلي، وعلاقة العمل، والتواصل الديني، والموقف الاحترازي تجاه من يخرب النقش. ويبلغ التواصل حد الارتقاء في قراءة وكتابة الأسفار، وفي التعاطي مع إشكالية انعكاس ذلك على الخصائص الحضارية لمجتمع العرب أرباب هذه النقوش’. وينوه المعاني أن ‘النقوش تفتقر إلى حيوية النص، التي تمنح مفتاح الولوج إلى عالم أصحابها الداخلي، وهذا مدعاة الباحث إلى تصيُّد الشذرات وتناثر المعلومات في مجموعات النقوش ومدوناتها والتوليف بينها على نسق سردي يضفي إلى أفقٍ معرفيٍ يؤسس لحقيقة درس تلك المجتمعات، وينبغي أن ينبري المرء في استقرائه للنقوش، من وجهة الأنثـروبولوجيا اللغوية، في فهم دلالات الأسماء والأفعال الواردة فيها، وارتباطها بمجتمع العرب القدماء، والاتساق الداخلي فيما بينها، وبينها وبين المجتمع من حولها، والالتفات إليها بوصفها ظاهرة اجتماعية، وتدارك الأنماط السلوكية فيها. والبحث في مسألة إلغاء التعارض فيما بين صاحب النقش بدلالات سلسلة النسب وبين مجتمعه’. ويتساءل المعاني: ‘هل نستطيع بناء معقولية سردية تاريخية عن مجتمع العرب الشماليين؛ اللحيانيين والثموديين والصفويين، من خلال ما خلَّفوه إرثا مفككا ومبعثرا، مليئا بالثغرات؟ وهل ثمَّة محرَّمات في مقاربة المصادر التاريخية والدينية مع فحوى تلك النقوش لتفهم ذلك الواقع؟.. ونحن نعرف، سلفاً، مدى الانفلات الذي يتحصل جراء تلك المقاربة!’. وتصوغ جغرافية العرب قبل الإسلام في البادية عاملاً فصلاً في إذكاء حالات إنسانية تماهت في جوهر الصراع مع البيئة الطبيعية والبيئة الديموغرافية المحيطة، الذي تورده النقوش وروداً لحوحاً. ولهذا كما يرى المعاني- ‘انبثت النقوش العربية الشمالية فوق أصقاع تباينت طبوغرافيتها؛ فكان من بينها النجود والنهاد، ومنها أراضي الحرّات الحمّاد، ومنها ما تشكل في السهول والأودية الضحلة. وقد تميزت هذه المواقع بتذبذب معدلات سقوط الأمطار، وقلتها، وبمناخ جاف شبه صحراوي، أثر على الغطاء النباتي، الذي جاء رعوياً، قصير العمر’. وخلص المعاني إلى ‘إننا نحتاج في قراءة النصوص النقوشية مثل سواها من الموروثات الكتابية إلى فهمين: بيئة النص وطبيعته من جهة، وهويته الزمنية والمكانية من جهة أخرى. وتعوزنا في تحليلها أدوات غير انتقائية أو احتشادية، تنتصر للفكرة التي تقفز إلى ذهن المنبري لها’. كشف أسرار منطقة (الحرّة) الأردنية من جهتها أشادت رئيسة منتدى الرواد الكبار/ رئيسة لجنة منتدى عمان، بـ’الأردن الجميل بأمنه وأمانه وخصوصيته وعمق تاريخه، والأنحياز الى الحياة وانجازاتها واستمرار تحدياتها’ منوهة ‘كم هو مبهج أن نلتقي هذا المساء مع عالم متخصص يكشف لنا أشياء جديدة ذات علاقة بالأنسان الأردني تاريخا ومكانا،انه الأستاذ الدكتور سلطان المعاني الذي يتابع وفريقة من الجامعة الهاشمية، كشف أسرار جديدة لمنطقة كنا نظنها صحراء قاحلة يصعب التعامل معها، الا وهي منطقة (الحرّة) الاردنية، حيث الجفاف والحجارة السوداء راهنا، فإذا هي وعبر البحث والاستقراء والتنقيب جنه معرفية، تفتح لعشاقها اسرارها، وتنبىء عن مكنونات غنية متعددة تمثلت بنقوش لغوية منقوشة على اسطح الحجارة السوداء، تقول خصوصية المكان وعمق الزمان وتعدد الحضارات، وتؤكد خصوصية الإنسان والمكان معا، وكل ذلك ما كان ليتحقق لولا الجهد الدؤوب، الفردي والمؤسسي، عبر فريق علمي قاده الدكتور ‘المعاني’ وفريقة، ويحلل ما يعطيه من رموز واشارات تجمع بين الأركيولوجيا والانثروبولوجيا، لنقرأ عبر اشاراته تاريخ المكان وتاريخ الأنسان معا، وقد آثر فريق لجنة منتدى عمان، ان يعطي لهذا الكشف أولويته التي يستحقها، فجاءت هذه المحاضرة لتقدم لنا باكورة هذا الكشف العميق’. كما رحبت البشير بمشاركة الأستاذ الدكتور هاني العمد، ‘صاحب الأبحاث العميقة في التراث الأردني وفي الأمثال الأردنية بخاصة، ليتعمق لدينا اللفظ المنطوق، واللفظ المنقوش في امسية مختلفة’.