نساء الحريدم

تخيلوا عالمًا مُغلقًا ومُنعزلاً. عالم محدود جدًا، تسود فيه قيود وخطوط واضحة جدًا، عالم منطوي على ذاته, وكُلما تمدد العالم العصري وتطور ينطوي أكثر على نفسه بقدر الإمكان، وتسود فيه قوانين عزل جديدة، وتحيط أسوار أعلى بأبنائه, وفي يوم من الأيام استطاع طاقم قناة تلفزيونية أن يخترق، بشكل بسيط، أحد تلك الجدران العالية والمُخيفة من أجل توثيق ما يدور داخل تلك الأسوار، بمعزل عن الفروض الدينية، التقاليد، القيود الشديدة، وقوانين الاحتشام الأكثر تطرفا.

وتبث القناة العاشرة الإسرائيلية في هذه الأيام سلسلة وثائقية قصيرة تتطرق إلى حياة أكثر الأوساط عزلة في المُجتمع الإسرائيلي, هذا الوسط، ليس معزولًا عن الواقع الإسرائيلي وعن الإسرائيليين فحسب، بل هو أيضًا مُناهض للصهيونية ويرى في دولة إسرائيل تجديد للعالم العصري، الذي لا تقبله التوراة, وتُعرض تلك السلسلة الوثائقية على الجمهور في وقت ذروة المشاهدة وتمنحهم إطلالة على نمط حياة الحريديم وللمزيد من الدقة، على العالم الممنوع، المخفي، المُحتشم الخاص بالنساء الحريديات.
ويعرف المواطن الإسرائيلي العادي، تقريبًا، من هو الحريدي وكم يُعتبر غرسة غريبة في المُجتمع الإسرائيلي بسبب تطرفه، أفكاره السياسية المُعادية للصهيونية والمناهضة للمؤسسات، تعصبه الديني وكرهه التام لكل ما هو عصري, ويجرؤ القليلون فقط على التطرق إلى مكانة النساء الحريديات، دورهنّ كربات بيوت، واللواتي تم إيكال دور كبير لهنّ لتوفير رغبات "الزوج الحريدي" وهنّ، تقريبًا، المُعيلات الوحيدات لعائلاتهنّ, ولتوضيح الأمر أكثر نُشير إلى أن المرأة الحريدية تربي 7 - 8 أبناء، بالمعدل، لا يُسمع صوتها تقريبًا علانية، ليست سيدة نفسها وسيدة بيتها ويجب عليها أن تكون في بيت والديها صاغرة لهم وكذلك لزوجها في بيت الزوجية.
وتدور حياة المرأة الحريدية، في هذا العالم المُركَب، دائمًا حول إيجاد حلول إبداعية للأوضاع المُعقدة التي آلت إليها حياتها في الجيل الأخير. قبل 60 عامًا كانت المرأة الحريدية مُخبأة داخل بيتها، لأن الاحتشام هو القيمة العُليا في وسط الحريديم, وكانت تُربي 4 أبناء، بالمعدل، ولم تكن تعمل، وكان زوجها يُعيلها. ومؤخرا خرجت المرأة الحريدية من البيت، إثر ثورة قادها حاخام كبير في وسط الحريديم، لكي تُعيل عائلتها و "حررت" زوجها لكي يتعلم التوراة. هذه كانت فكرة جديدة وجريئة وليس فقط أنها كانت ضد التعاليم اليهودية المتوراثة بل أيضًا ضد عقد الزواج (عقد ما قبل الزواج) الذي يلتزم فيه الزوج بإعالة الزوجة.

ومن أجل فهم عمق التعقيد في حياة المرأة الحريدية علينا أن نفهم ماهية اليهودية الحريدية. اليهودية الحريدية هي مجموعة من التيارات التابعة لليهودية الأرثوذوكسية التي تتمثل بالتشديد الكبير على الالتزام بالوصايا، تطبيق التعاليم اليهودية والتمسك المُبالغ به بالدين والثقافة الدينية ونمط الحياة المحتشم, حيث نشأ التيار الحريدي في وسط وشرق أوروبا، في العصر الحديث، كردة فعل على عمليات التحديث والعصرنة التي مر بها اليهود في أواخر القرن الثامن عشر. في القرن التاسع عشر كان مُصطلح "حريديم" صفة مميزة لليهود الذين تمسكوا بنمط حياتهم التقليدي وفقًا للتعاليم اليهودية, يتركز مُعظم اليهود الحريديم اليوم في  إسرائيل، الولايات المُتحدة، بلجيكا، وبريطانيا.
تحمل النساء الحريديات على أكتافهنّ الرقيقة العبْء الأكبر, فيما تبدو المرأة الحريدية في عام 2016 مُنهارة من هول المهام الملقاة على عاتقها. وهي تربي اليوم 7 أبناء، بالمعدل، والمُعيلة الوحيدة، في مُعظم بيوت الحريديم، ومُعظم الأعمال البيتية ملقاة على عاتقها. تنص كُتب الإرشاد الخاصة بالنساء الحريديات على عدم طلب المُساعدة من الزوج. ودور المرأة الحريدية مُعقد جدًا: يُتوقع منها أن تُربي الأولاد، تهتم بالأعمال البيتية، وأن تهتم بإعالة عائلتها. وكل ذلك من أجل إتاحة فرصة تعلم التوراة للزوج من الصباح حتى المساء. ترضع المرأة الحريدية هذه التربية منذ سن صغيرة: هناك فصل تام بين الرجال والنساء، ومكان المرأة ليس بين الجمهور، وتكون معزولة عن الحياة العامة، وتوصى بألا تحاول الخروج عن نمط الحياة وهذه القوانين الصارمة.

وتبدو امرأة حريدية في الثلاثينات من العمر وكأنها في الستينات, إلى متى يُمكنهن العيش هكذا؟"، وفقًا لما ذكرته الباحثة في شؤون الحريديم، في لقاء لها ضمن البرنامج الوثائقي, والحيز العام محظور عليهن تمامًا، وكما يحظر على المرأة أن تُسمع صوتها لأنها ليست سيدة نفسها, "عندما تُنهي الفتاة الحريدية تعليمها وتبلغ 17.5 عاما أو 18، يجب إيجاد زوج لها, فهي تعيش في ضغط كبير والمطلوب منها واضح: الموافقة على تزويجها من الرجل الذي تلتقيه نحو 2 - 3 مرات، وفي أحسن الأحوال عندما يتم إعلان خطوبتهما"، وفقًا لما قالته شابة حريدية في الثلاثينات من العمر، وهي متزوجة وأم لأربعة أولاد كانت قد شاركت في البرنامج, وتحمل النساء الحريديات على أكتافهنّ الرقيقة العبْء الأكبر, فيما تبدو المرأة الحريدية في عام 2016 مُنهارة من هول المهام الملقاة على عاتقها, وهي تربي اليوم 7 أبناء، بالمعدل، والمُعيلة الوحيدة، في مُعظم بيوت الحريديم، ومُعظم الأعمال البيتية ملقاة على عاتقها. تنص كُتب الإرشاد الخاصة بالنساء الحريديات على عدم طلب المُساعدة من الزوج. دور المرأة الحريدية مُعقد جدًا: يُتوقع منها أن تُربي الأولاد، تهتم بالأعمال البيتية، وأن تهتم بإعالة عائلتها. وكل ذلك من أجل إتاحة فرصة تعلم التوراة للزوج من الصباح حتى المساء. ترضع المرأة الحريدية هذه التربية منذ سن صغيرة: هناك فصل تام بين الرجال والنساء، ومكان المرأة ليس بين الجمهور، وتكون معزولة عن الحياة العامة، وتوصى بألا تحاول الخروج عن نمط الحياة وهذه القوانين الصارمة.

 وحطمت الثورة، التي بدأت في الستينات، مع إخراج النساء خارج جدران البيت الخاص وإلى الحيز العام لكسب الرزق من أجل أزواجهن وأولادهن، الكثير من الجدران الزجاجية. أصبح الكثير من النساء على تواصل مع "العالم الخارجي"، وهن يُطالبنّ امتهان أعمال ووظائف حرة، ويسعين إلى التعلم في الجامعات وتحصيل العلم. السؤال الذي يطرح نفسه هو هل بعد الثورة الأولى ستحدث ثورة ثانية، تقودها النساء، وسيثرن على الوضع الذي حددته لهنّ المؤسسة الحريدية الذكورية؟ هل ستعود المرأة التي خرجت للعمل، وحصلت على تعليم عالي، ورأت العالم، إلى البيت كامرأة خانعة جُل ما عليها فعله هو إشباع رغبة زوجها؟


وقال الكثير من النساء اللواتي شاركن في البرنامج إن العالم العصري والعلماني ليس بالضرورة أن يكون العالم الذي تسعى إليه النساء الحريديات. لا شك أن هناك العديد من المشاكل في مُجتمع الحريديم، مثل العزلة عن العالم، إلزام النساء على تلبية احتياجات أزواجهن، العنف الشديد المُمارس ضدهنّ، إلزامهن بالصمت، التحريم التام لعالم الجنس، نسبة الولادة المُرتفعة، عيش حياة مُنغلقة جدًا، احتشام مُبالغ به، وتمييز كبير ضد النساء. تعتبر غالبية النساء الحريديات النساء النسويات مصدر شر مُستديم وعليهن الامتناع من أن يلحق بهن الضرر. تُريد النساء الحريديات، الشابات الصغيرات اللواتي يتبنين التغيير، توسيع الحدود من جديد داخل مجتمعهنّ وفي إطار عائلاتهنّ: تخليصهنّ من عبء إنجاب عدد كبير من الأولاد، إتاحة فرص عمل متساوية لهن، أن يكون الزوج جزءًا من تربية الأولاد وتنشئتهم، التصدي لظاهرة ممارسة العنف ضد النساء داخل الوسط، توفير تعليم أسس التربية الجنسية للزوجات الحديثات اللواتي لا يمسكن يد أزواجهن المُستقبليين، إسماع أصواتهن أكثر في المُجتمع، وإتاحة الفرصة أكثر للنساء الحريديات للتقدم والتطور.

ويقف مُقابل النساء الحريديات، اللواتي يُطالبنّ بالتحرر من الأعباء الثقيلة الموجودة في عالم الحريديم، الكثير من المُعارضين. يرى الكثير من الحاخامات بذلك التغيير الذي يُحدثه الكثير من النساء الحريديات لعنة كبيرة ويمنعون مُجتمعًا كاملاً (عدد الحريديم في إسرائيل يتراوح بين 950 ألف - مليون شخص) من الانفتاح والانجرار خلف العالم العصري الضال. حتى أنه في البرنامج الوثائقي قُدّمت اثباتات على وجود حاخامت توجهوا إلى أصحاب عمل، ممن يُشغّلون نساء حريديات، وطلبوا منهم إعطاءهن راتبًا مُنخفضًا عمدًا لإبقائهنّ دائمًا تحت رحمة أزواجهنّ في البيت. لا يرى الكثير من الحاخامات تقديم الأزواج المساعدة لزوجاتهن، بعين جيدة، في كل ما يتعلق بتربية الأولاد والاهتمام بهم.


وليس أولئك فقط هم الذين يقفون ضد النساء الحريديات اللواتي يُطالبنّ بتحرير المرأة الحريدية بل أيضًا مجموعات مُتزمتة أخرى. مجموعة "نساء الطالبان"، أو باسم المجموعة "نساء الشالات" هي أكبر مجموعة تتكتل ضد النساء الراغبات في التغيير, ويتميَّزن نساء الطالبان هي مجموعة من النساء اللواتي بوضع "الشال"، وهو ثوب يُغطي الجزء الأعلى من الجسم ويُموه شكله، وتستخدمه النساء الحاريديات عند خروجهن من البيت، وأيضًا يضعن الشال على جسم بناتهن. هذا الثوب، وفقًا لادعاءاتهنّ، هو ثوب نسائي يهودي قديم تنص التعاليم الدينية على واجب ارتدائه. كما ويضع بعض النساء من تلك المجموعة الحجاب.‎ هناك، وفق التقديرات الأخيرة، نحو 10,000 امرأة من الحريديات يضعنّ الشال.‎ توجد مجموعة من أولئك النساء في القدس، ومجموعة ثانية في بيت شيمش، غرب القدس.
ترى تلك المجموعة من النساء أن النساء الحريديات غير مُحتشمات وعدم الاحتشام ذاك سيدفع نحو خراب المُجتمع اليهودي. تدعي نساء طالبان أن ملابسهن المميزة هي التي ستُعجّل الخلاص أكثر.


ويعد عالم النساء الحريديات مُعقد جدًا: من جهة نجد أن ذلك الانفتاح يجذبهن ويُتيح لهنّ مساحة حركة أوسع، ومن جهة أخرى، فإن الانفتاح المُبالغ به والعصرنة تُهدد مُجتمعاتهنّ المُنغلقة على نفسها والمُحافظة. يبدو أن السنوات القادمة سوف تجلب معها تغييرات بسيطة ولكنها هامة بما يكفي لإتاحة الفرصة للمرأة الحريدية أن تُنزل عن كاهلها القليل من تلك الأعباء الثقيلة ومسؤوليتها للحفاظ على سمعتها وسمعة عائلتها.