اقتحمت المرأة المهن الذكورية الشاقة،

ظلت بعض المهن في المجتمع حكرًا على مدى سنوات طويلة على الرجال فقط، لكن يبدو أن الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها بعض الأسر، باتت تفرض واقعًا جديدًا، فاقتحمت المرأة المهن الذكورية الشاقة، وهو ما أثار جدلًا واسعًا، وتقبله البعض، بينما رفضه البعض الآخر. التقى "مصر اليوم" بثلاث نساء، ممن استطعن النجاح في هذه المهمة، وتعرف منهن على كل ما يتعلق بأسرار أعمالهن.

 

"مي" اختارت مهنة شاقة
قررت أن تتحدى الظروف القاسية، فهي تنتمي لأسرة مكونة من 14 أخًا وأختًا، وأبًا وأمًا بلغا من العمر أرذله.
اختارت مي جمال ابنة الثمانية عشر عامًا، في سن مبكرة مهنة شاقة تعلمتها على يد والدها، وكانت حتى وقت قريب حكرًا على الرجال، وهي "السباكة".

"مافكرتش في نظرة الناس ليا، المهم أننا نلاقي ناكل، وادفع إيجار الشقة"..  بهذه الكلمات بدأت "مي" حديثها لـ"مصر اليوم"، ثم بدأت بعدها في سرد تفاصيل حياتها "بابا خادنا معاه ليبيا وكان عندي 6 سنين، وكنت باحب أروح الشغل أساعده، ومع الوقت أتعلمت حاجات كتير، لحد ما أبويا جاله مرض صعب، وبعدها مابقاش يقدر يشتغل".

كان مرض والد "مي" نقطة تحول في حياتها" اضطريت بعد مرض والدي، أني أشيل شغله، وسبت المدرسة، لحد مابقى أسطى بحق وحقيقي".
وفي ظل الأحداث التي شهدتها ليبيا، عادت أسرة "مي" إلى مصر، واستمرت الفتاة في ممارسة المهنة التي فرضتها عليها الظروف المعيشية"بعد رجوعي لمصر، كملت شغلي في السباكة، ومابروحش شغلانة إلا ومعايا حد من أخواتي".

"ياسمين" وتجربة "شارع مصر"
تحولت ياسمين رحيم، بسبب مقطع فيديو صغير لم تتعد مدته الدقيقتين، إلى أشهر بائعة "برجر" في مصر، بعد أن تعاطف معها الملايين، إثر قيامها بتصوير مسؤولي حي النزهة أثناء إزالة عربة الطعام الخاصة بها بمنطقة مساكن شيراتون، منذ ما يقرب من خمسة أشهر، بدعوى أنها لا تحمل تراخيص.

مالم تكن تتوقعه "ياسمين" هو أن يتحدث عنها الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال إحدى مؤتمر الشباب، وكانت قصتها بمثابة "النواة" التي جعلت الرئيس يوجه بسرعة حل مشكلتها وتجميع الشباب أصحاب العربات المتنقلة وإعطائهم تراخيص مؤقتة لتشجيعهم على إيجاد فرص عمل.

التوجيهات الرئاسية تم ترجمتها إلى عمل جاد على أرض الواقع ليخرج مشروع "شارع مصر" في منطقة النزهة إلى النور بعدما قامت محافظة القاهرة بتنفيذه بناء على مقترح الرقابة الإدارية صاحبة الفضل في الفكرة والتي أشرفت على تنفيذ المشروع منذ بدايته.

ترى "ياسمين" أن المشروع وفر غطاء قانوني لمشاريع الشباب الصغيرة، وسهل من عملية البيع "بنشتغل في شارع مصر واحنا مطمنين، مش زي الأول كنا بنبقى واقفين في الشوارع خايفين من الحي، بالإضافة إلى أن الدعاية الكبيرة اللي اتعملت للمشروع خلت ناس كتير تيجي علشان تتفرج بنفسها وتجرب أكلنا وطبعًا ده نشط عملية البيع أكتر من زمان".

تتمنى فتاة "البرجر"، الحاصلة على بكالوريوس إدارة أعمال وزملاؤها في "شارع مصر، أن يتم تعميم التجربة بعد نجاحها في أكثر من مكان داخل وخارج القاهرة لتشغيل أكبر عدد من الشباب المكافح بدلًا من الوقوف في صفوف البطالة: "تنفيذ المشروع ده في أكثر من مكان، أولاً هايشغل الشباب بدل قعدتهم على القهاوي وكمان ها يقضي على الفوضى والعشوائية".

"أم حسن".. تتحدى المستحيل
يديها ملطخةُ بالحبر و"الورنيش"، وعقلها مزدحم بدروس علم النفس التي لا ترتبط بمهنة "تلميع" أحذية الزبائن.. يوم شاق ملئ بالتعب، يبدأ عندما تجلس في "المدرج" نهارًا لتدرس علم النفس، وتعود إلى رصيف "أرض اللواء في محافظة الجيزة" ليلًا لتواصل عملها في مهنة تلميع الأحذية.

لم تجد لنفسها عملاً "يفتح البيت" سوى صندوق خشبي صغير وعلبة ورنيش جلست بهم على "مزلقان أرض اللواء" لمسح أحذية المارة، بعد أن وجدت أن شهادة دبلوم التجارة التي حصلت عليها لا تستطيع أن توفر لها عملا تستطيع أن تلبي به حاجات أسرتها بعد وفاة زوجها.

تدافع آمال حسن والشهيرة بـ "أم حسن" السيدة ذات الستين عامًا عن مهنتها التي عاشت معها 16 عامًا، وترفض أن تسميها مهنة الرجال "مافيش شغل مقتصر على الرجالة، الست تقدر تشتغل كل حاجه طالما إنه شغل شريف".

وتكمل قائلة " ما خطرش في بالى أبدًا أنى ممكن أشتغل الشغلانة دي، بس الظروف حكمت، علشان أربى عيالى بالحلال، وكان لازم أشتغل وأصرف عليهم وعلى تعليمهم".وتستعيد "أم حسن" ذكرياتها "50 جنيهًا كانت هي كل رأس مالي قبل أن أبدأ بمسح الأحذية، استلفتها من جيراني حتى استطيع شراء صندوق الورنيش، وقلت ربنا هيرزقني، ومن يوميها وربنا ساترها معايا".

مطاردات ومضايقات تحتملتها بداية من مزلقان "ناهية" إلى رصيف "أرض اللواء"، عندما وجدت أكثر من شخص يعملون نفس مهنتها واستقبلوها مستهزئين "هي الحكاية ناقصة ستات كمان"، لتقرر أم حسن الرحيل بعد أن هددها أحدهم "ملكيش عيش هنا".اجتاحها شعورًا باليأس ممزوجًا بالخوف على مصير أولادها، ومع ذلك تصدت بكل قواها وتحدت كل ما تعرضت له، واستمرت في "تلميع الأحذية" أعوامًا بين الإصرار والتحمُل حتى أضحى الكل يعرفها بسماتها الطيبة، ها هي الآن بعد هذه السنوات الطوال، ترى أولادها الخمسة وهم يدرسون في الكليات الجامعية بفضل قوت يومها، فمنهم من يدرس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكلية التمريض وآخر بالهندسة، وآخر بكلية السياحة والفنادق.

لم تيأس "أم حسن" من ظروف الحياة السيئة والاضطهاد الذي عانت منه في بداية رحلتها، فقررت أن تستكمل دراستها على غرار عملها، فالتحقت بكلية الخدمة الاجتماعية، ولم يكن حلمها مقتصر على الدراسة فقط، بل تطمح لأن تحصل على درجة الماجستير والدكتوراه يومًا ما، مُرددة "مفيش حاجة مستحيلة".