فيروس كورونا

عندما يعيش الإنسان تجربة فريدةً من نوعها في حياته فلا بد أن يتقاسمها بحلوها ومرها مع أهله وأبناء جلدته لتكون درسا لهم ولربما يستلهم منها البعض دروسا إنسانية تفيده بطريقة أو بأخرى في صياغة حياته.

لا شيء في هذا الكون يقاس بالوطن وعشق ترابه، ومهما خرج عن حدوده وحلق بعيدا عن سربه فلا بد له من عودة. هذا ملخص كلمات روتها المواطنة «س» بعد الرحلة التي عاشتها في الحجر الصحي بعد رجوعها من العراق للتأكد من عدم إصابتها بفيروس كورونا حتى خرجت من الحجر.

«أخبار الخليج» تنقل هذه التجربة كما وردت على لسان صاحبتها:

غادرت مع الوالدة الغالية في رحلة سياحة دينية إلى أرض العراق.. لأفاجأ بعد أقل من أسبوع بإغلاق الطيران المباشر بين بلدنا الحبيبة وبين العراق الشقيقة بسبب الأزمة العالمية لمرض كورونا، فأصبحت في حيرة من أمري هل أقوم بقطع الرحلة قبل إتمامها أم أكمل الرحلة وأعول على تغيير الأمور وانفراجها في الأيام القليلة القادمة، اخترت أن أنتظر أياما قليلة قبل أن أحجز على أي رحلة ترانزيت إلى أرض الوطن، هكذا بدأت «س» وهي مواطنة بعد خروجها من الحجر الصحي في الحد.  

وأضافت «التخويف والتهويل لهما دور كبير في انتظاري وعدم اتخاذي قرار العودة السريع الى الوطن، حيث كنت وحيدة مع والدتي.. وكنت أخشى عليها التعب والمشقة في رحلة ترانزيت قد تستنزف قواها، لكن الأخبار المتلاحقة والمتسارعة بصورة جنونية في ظل الأزمة العالمية لفيروس كورونا جعلتني أخشى تضييع الفرصة وفوات الوقت للرحيل.. وأن أتحول مع والدتي الى عالقتين في دولة غريبة، لذا أخذت المجازفة بعد التوكل على الله للخروج من العراق عن طريق مطار بغداد ومنه للقاهرة وصولا إلى البحرين الحبيبة مسقط رأسنا.

محطات الرحلة

وأضافت: «كانت المحطة الأولى عند الساعة الثالثة والنصف فجراً بتوقيت بغداد من يوم الجمعة الموافق السادس من شهر مارس 2020 حيث انطلقنا من مدينة النجف الأشرف متوجهين الى مطار بغداد الدولي، حيث تبدأ أولى خطوات رحلتنا نحو البحرين الحبيبة، ومن مطار بغداد الدولي ننطلق نحو مطار القاهرة ومن ثم باتجاه مطار البحرين الدولي، حيث كانت هذه الرحلة إحدى الرحلات المتوافرة للرجوع بعد إغلاق المنفذ المباشر بين بغداد والمنامة.

وتواصل: «في الساعة الرابعة والنصف صباحاً من فجر الجمعة الموافق السادس من شهر مارس 2020 كان الوصول إلى سيطرة منطقة الحلة، وهي تعتبر آخر نقطة تفتيش من المفترض أن نجتازها للوصول إلى مطار بغداد الدولي، وبعد ما يقارب الساعة ونصف الساعة من المسير باتجاه مطار بغداد الدولي وعند الوصول إلى السيطرة الآنف ذكرها.. تم توقيفنا ومنعنا من العبور الى الضفة الأخرى، وذلك لقرار منع التجوال بين المحافظات بسبب الوضع الراهن لانتشار كورونا، وهو ما يستوجب تغيير المسار وسلك طريق آخر قد يستهلك نفس المدة الزمنية المنقضية بل وربما أكثر.. والسؤال هل سنصل إلى مطار بغداد الدولي من دون أن تفوتنا الرحلة الموعودة والتي تحمل أرواحنا قبل أجسادنا الى الوطن !

وتابعت حديثها «كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف تماماً من يوم الجمعة الموافق السادس من شهر مارس 2020م، موعد وصولنا إلى مطار بغداد الدولي.. كنت أتوقع الأسوأ.. كل الاحتمالات كانت موجودة وأعدت الخطط البديلة تباعا لهذه الاحتمالات.. ولكن اللطف الإلهي كان رفيقنا -كما هو دائما- دخلنا المطار بكل سلاسة ويسر، أدخلت أمتعتنا من دون أي عراقيل ولله جزيل الشكر والامتنان، وفي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً من يوم الجمعة الموافق السادس من مارس 2020م. ما كنت اعتقده عقبة كبرى (وهو مطار القاهرة الدولي) أضحى بتوفيق من الله عز وجل عقبة دون الصغرى.. لم نواجه أدنى صعوبة في دخول المطار والاستعداد لركوب الطائرة العائدة الى أرض الوطن وهانت كل الصعاب وأضحى الوصول الى الوطن الحبيب قاب قوسين أو أدنى وعند وصولنا هناك لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا، فنحن بين أحضان الوطن.

وأضافت: «الساعة كانت تشير إلى الثانية والنصف مساءً بتوقيت القاهرة من يوم الجمعة الموافق السادس من مارس 2020 م.. هو توقيت إقلاع الطائرة من مطار القاهرة الدولي متجهة الى مطار البحرين الدولي حيث تكون بوصلة القلب.. متحمسة جداً للوصول رغم أنني أعرف مسبقاً أن هناك حجراً أو عزلاً محتما ينتظرنا في كل الأحوال سواء كنا مصابين بكورونا أم مخالطين لمرضى كورونا وهي إجراءات احترازية تقوم بها الدولة لحماية مواطنيها من أي ضرر قد يلحق بهم.. متأهبين للوصول ومواجهة المصير المحتوم ألا وهو الحجر.

العودة إلى الوطن

وتابعت: «الساعة الخامسة و45 دقيقة مساءً من يوم الجمعة الموافق السادس من مارس 2020م هبطت الطائرة التي تقلنا والقادمة من مطار القاهرة الدولي في مطار مملكة البحرين.. بعد توقفها تماماً ثم تمت مناداة مجموعة من الأسماء وطلب منا البقاء في الطائرة وعدم مغادرتها لحين الإذن لنا.. وبعدها تم نقلنا بالباصات إلى الخيمة التي أعدت خصيصاً لاستقبال القادمين من دول معينة من ضمنها العراق ولتبدأ الإجراءات في نقلنا الى الحجر أو العزل.. وعندما تم نقلنا بالباص الى الخيمة المجاورة والتي أعدت لفحص المسافرين القادمين.. تم استقبالنا من قبل الطاقم الطبي والطاقم المخصص المرافق بكل ود وترحاب، فلا بد أن أصدقكم القول إن التخوف كان موجوداً، وخصوصاً مع التهويل المتداول في وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار المتلاحقة بصورة جنونية والتي تجعل الناس تعيش هاجساً قبل معاينة الحقيقة، ولكن ما لمسناه كان شيئاً منظماً وجهداً جباراً لكل الجهات القائمة عليه، فلم نطل المكوث، وتم إنهاء الإجراءات بيسر وسهولة ولم نعامل إلا بكل احترام وود، فلا بد أن تقال الحقيقة ولا بد أن يكشف للناس ما يجري بدلا من الإشاعات والأقاويل التي تتداول والتي لا تملك المصداقية الكافية.

أجواء الحجر الصحي

وتابعت: «لا أعرف من أين سأبدأ صدقاً وكيف سأصف الأجواء لأول يوم في الحجر الصحي.. شعور مختلط بين عدم التصديق وبين الخوف من المجهول وبين التفكير في أنها 14 يوما طويلة كيف ستقضى في هذا المكان»، ولكن الصورة التي تبدو أمامي لكن تكون مرة أبداً بإذن الله.. فما أراه أمامي صوراً إنسانية بالغة في الإتقان.. قصصُ مختلفة.. مشاعر فياضة.. حياة لم أعهدها سابقاً في سنين عمري الماضية فقد كنا نسكن في أحد المبانى التي خصصت للعالقين وهي عبارة عن ثمانية مبانٍ منفصلة.. كل مبنى مكون من أربعة طوابق وفي كل طابق مجموعة من الغرف المجهزة بكل التجهيزات التي قد يحتاج اليها أي شخص.. وقد اخترت أنا وأمي غرفة وقمت بترتيب الأثاث بالطريقة التي تكون مريحة بالنسبة إلينا أنا وأمي، ولا أخفيكم القول بأن أكثر ما كان يقلقني هو تأثير الحجر على والدتي الحبيبة التي حاولت أن أبعده عنها بشتى الطرق.. ولله الحمد ما شهدته من الصور الإنسانية أمامها أنساها هذا الحزن لتبدأ في رحلة الاندماج مع الواقع وتقبله بكل رحابة صدر، ولكن كان مصدر قلقنا الوحيد هو كون المرافق الصحية خارج الغرف في نهاية الممر.. عدا عن ذلك فجميع التجهيزات الاخرى لائقة ومريحة ولا تشوبها شائبة.

وأشادت بالنظام في الحجر، وكيف أن الوجبات توفر في أوقات معينة يعرفها الجميع وهي وجبات صحية كافية ولا ينقصها شيء، ومن ناحية الظروف البيئية فهي ظروف ملائمة مريحة تبعد التوتر النفسي المصاحب لموضوع الحجر.

وتواصل حديثها: «كذلك من المشاهد التي أبهرتني في الحجر وجود عدد من المتطوعين من الأشخاص القاطنين في الحجر يقومون بمساعدة الطاقم الإداري والطبي في تنظيم شؤون المحجر من إعداد للبرامج والمساعدة في أعمال النظافة والخدمات، وكوني ممرضة فإني أتفهم الجهود الجبارة التي بذلت، والتي ما زالت تبذل بصورة مستمرة لإخراج الحجر بالصورة المثالية الملائمة للناس، ورسالتي إلى جميع من فرض عليه هذا الحجر كإجراء احترازي لسلامته وسلامة عائلته ومن حوله من المجتمع أن يتقبل هذا الإجراء بصدر رحب وبرضا تام وأن يتعاون مع الجهات الرسمية والطاقم الطبي الذي لا يدخر جهداً في سبيل خدمة النزلاء وراحتهم.. فهم يتركون عوائلهم وحياتهم ليكونوا في خدمتنا (مع العلم أن العدد الأكبر منهم متطوعون للعمل في هذه الفترة)، حيث يكونون في الصف الأول من الجبهة في مواجهة كورونا، وهذه ليست بالتضحية البسيطة التي يستطيع الإنسان بذلها.

وأضافت: «من ضمن المواقف التي مرت علي أثناء وجودي في الحجر حيث كنت أتجول خارج الغرفة بعد أن قضيت وقتا من المطالعة بين طيات الكتب لأصادف وفداً رسمياً من ديوان ولي العهد، وذلك للاطمئنان على وضع المحجورين ومتابعة احتياجاتهم وهو جهد جبار يشكر عليه سمو ولي العهد وجميع الجهات المختصة ولا يستطيع أحدُ إنكاره.. فكل الجهود مسخرة لتذليل هذه الفترة العصيبة بالنسبة الى كثير من الأشخاص الذين يعانون من العزلة والبعد عن الأهل والأحباب، وإن كانت الظروف ملائمة ولا يشوبها أي نقص».

كلمة أخيرة

وفي الختام قالت: «فلهذه الأيادي البيضاء نقف إجلالا وتقديرا ونشد على أيديهم بمواصلة هذا الدرب الحثيث، فهذا إن دل على شيء فهو يدل على طيب المعدن ونقائه والولاء التام لهذا الوطن وحبات ترابه الغالي، كما لن أنسى الجنود المجهولين، ففي كل جبهة لا بد من جنود مجهولين يقفون صفاً بصف مع الطاقم الطبي والطاقم الإداري الموجود في الحجر، هؤلاء الجنود المجهولون في الحجر أنفسهم ممن تعاون مع الجهات الرسمية لتذليل الصعاب لكل نزيل هنا.

كلمتي الأخيرة لمن كتب له القدر ان يكون في الحجر أن يستغل هذه النعمة وأن يحول هذه الفترة الاستثنائية في حياته الى منطلق جديد في حياته.. يغير فيه أولوياته يعيد فيه مراجعة حياته يقف فيه وقفة صادقة مع نفسه ليستنهضها من جديد ليقوم بمزاولة ما تقاعس عنه وما تمنى دوماً إنجازه، وخاصة أنه منحت له فرصة نادرة في حياته لتغييرها، وهي نعمة كبرى يجب على الفرد ألا يقوم بإضاعتها، ويجب ألا يعتبر ما يمر به محنة وألما وعزلة بل يعتبرها منحة وسعادة وفرصة كبيرة تعوض ما فات من حياته.

قد يهمك أيضا

«الإعلام البحرينية » تؤكد أنه خلال شهر تم إنتاج أكثر من 500 تقرير إخباري

ارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا في العراق إلى 458 إصابة