بقلم :عبدالله بن بجاد العتيبي
يمكن للعرب أن ينافسوا في صناعة التاريخ، فهم ليسوا غرباء عليه ولا على صناعته، ولكنهم ابتعدوا قروناً وغرقوا في الجهل والتخلف، وحين بدأت تلوح بوادر نهضة ما قامت سوق الانقلابات العسكرية التي سموها ثوراتٍ، وراج تخلفٌ جديدٌ بشعاراتٍ مختلفة قومية وبعثية ويسارية، وانقضت عقودٌ لم ينجح فيها أحدٌ.
الرهان على العلم هو الرهان الصحيح لكل من يريد صناعة التاريخ ويرغب في المساهمة في بناء المستقبل، وهو تحديداً ما صنعته دولة الإمارات العربية المتحدة في مسيرة طويلة لتحقيق الحلم الذي كان مستحيلاً وإرسال مسبارٍ إلى الكوكب الأحمر البعيد، وبتخطيطٍ محكمٍ وعملٍ دؤوب ونَفَس طويل بدأت قبل سنواتٍ في العمل على تحويل المستحيل ممكناً، وتم ذلك يوم الثلاثاء الماضي التاسع من فبراير (شباط)، حيث دخل مسبار الأمل إلى مداره حول المريخ.
خطوة كبيرة في مسيرة العلم وخطوة أكبر للعرب يعيدون بها سيرتهم الأولى، فمساهمات العرب في تاريخ الفلك قديماً معروفة مشهورة دفعت إليها الحاجة ثم طوروها بالعلم والمعرفة، وها هي المسيرة تستأنف بالعلم والمعرفة مجدداً، وهذه المرة برؤية وتخطيط وتنفيذ إماراتي يكتب اسم هذه الدولة بمداد من مجدٍ وعزمٍ وتصميم.
النزوات لا تبني الإنجازات، بل الرؤية والتخطيط والإصرار، ثم العمل والاجتهاد وملاحقة الأحلام وصناعة المستحيل، والقصة في البداية هي قصة بناء الدولة القوية المستقرة الآمنة، وهو تحدٍ تكفّل به الآباء المؤسسون حتى قيام الاتحاد وإعلان دولة الإمارات العربية المتحدة.
في غمرة الفرح وحماسة تحقيق الحلم ينسى البعض الجهد الطويل المبذول، والحضارات لا تبنى بين عشية وضحاها، بل هو إدمان العمل والنجاح وتصاعد الأحلام والبناء على المنجز، وكم كان عسيراً في زمن الشعارات الرنانة والخطابات النزقة أن تصر بعض القيادات على بناء دولة الاستقرار والاعتدال، دولة التنمية والعدالة، دولة السعادة والرفاه، وهكذا كان، ولولا هذه الخطوات المهمة الثابتة والراسخة لما أمكن البناء عليها والصعود إلى الفضاء الفسيح وتحقيق ما لم يحققه عربي من قبل وكتابة اسم الإمارات ضمن خمس دول فقط في العالم استطاعت الوصول للكوكب الأحمر كأول دولة عربية تحقق هذا المنجز وتصنع التاريخ.
في منتصف الثمانينات كان للعرب موعدٌ مع التاريخ في الفضاء، وذلك بصعود الأمير سلطان بن سلمان إلى الفضاء كأول رائد فضاء عربي 1985، وهي المسيرة التي أكملها رائد الفضاء الإماراتي هزاع المنصوري بكونه أول رائد فضاء عربي يصل إلى محطة الفضاء الدولية في سبتمبر (أيلول) 2019.
مسار «مسبار الأمل» إلى المريخ تم تعبيده بالعلم والمعرفة والمثابرة وقرارات القيادة ورؤيتها وسواعد أبناء الإمارات، فقد كان الفضاء أحد أحلام الشيخ المؤسس زايد بن سلطان، وواصل أبناؤه المسيرة، وحافظوا على التوجه، وأعلنت الإمارات عن تأسيس وكالة الإمارات للفضاء عام 2014 ومركز محمد بن راشد للفضاء في 2015، وتم إرسال عددٍ من الأقمار الصناعية إلى الفضاء وإرسال رائد فضاء إلى المحطة الدولية ثم وصول «مسبار الأمل» إلى المريخ كتتويجٍ لمسيرة حافلة وليس صدفة أو طفرة بلا مقدمات.
هذا الموجز السريع في هذا السياق يوضح أن خلف الأحلام الكبرى وتحقيق المستحيلات رؤى ثابتة وقيادات واعية ودولاً مستقرة متطورة، وأن الأحلام الكبرى يتم بناؤها خطوة خطوة بدءاً من التعليم والتعليم الجامعي وابتعاث المتميزين ورعاية الموهوبين والعمل المؤسسي المستمر، وأن بإمكان العرب تحقيق الكثير حين يتركون الشعارات الفارغة والآيديولوجيات الأصولية المتطرفة ويراهنون على العلم والعمل وبناء التنمية وصناعة المستقبل.
دولة الإمارات هي دولة رئيسية في محور الاعتدال في المنطقة، المحور الذي يواجه محاور الطائفية والأصولية التي تسعى لنشر الطائفية والأصولية والتطرف والإرهاب والفوضى، بينما يصر هذا المحور على نشر الاعتدال والاستقرار، وهي تقف جنباً إلى جنبٍ مع مصر والسعودية بالتوافق مع المؤسسات والقوانين الدولية.
دولة الإمارات دولة فتية تقدم النموذج التنموي المذهل للعالم العربي والعالم أجمع، وأنه بالإرادة والتخطيط يمكن تحقيق المستحيل، وهذا كله يتم ضمن رؤية شاملة؛ فهي قادت عملية تحقيق سلام حقيقي مع إسرائيل في المنطقة غير كثيراً من التوازنات السياسية، واستبق الكثير من التحديات القائمة، كما أنها تقود التعايش الإنساني عبر «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي وقعها شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الكاثوليكية في أبوظبي عام 2019، وهي تنشئ بيت العائلة الإبراهيمية الذي سيتم الانتهاء منه في 2022.
قبل هذا وبعده فالإمارات تقود بوعي متقدمٍ الرؤية العالمية لتصنيف جماعات الإسلام السياسي، على رأسها جماعة الإخوان المسلمين، جماعاتٍ إرهابية، ولا تكتفي بتصنيف تنظيمات العنف الديني فقط، فبدون القضاء على الجذور الحقيقية لداء الكراهية والإرهاب لن ينتهي التطرف ولن يتوقف الإرهاب.
خيارات الدول تصنع مصائرها ومكانتها، ففي حين أصرت الإمارات على هذه الرؤية الشاملة، وحققت وتحقق النجاحات والإنجازات، أصرت دولٌ أخرى على نشر الإرهاب والفوضى ودعم الأصولية والتحالف مع المحاور المعادية للعرب في المنطقة، وهو ما يوضح أن الثيمة الأصلية لمثل هذه النجاحات هي في الرؤية وليست في المال.
لإيضاح الفارق فثمة دولٌ عربية لا تقل غنى عن دول الخليج، لكن قياداتها اختارت منذ أمدٍ بعيدٍ تشتيت ثرواتها خلف شعاراتٍ لا تسمن ولا تغني من جوعٍ، ولذلك بقيت تشتتها الفوضى ويفترسها الفقر والجوع، وبعضها ابتليت باحتلالٍ مقنعٍ، طائفي كما في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وأصولي كما في ليبيا، ومصر، قبل أن تنفض غبار جماعة الإخوان الإرهابية وتعود مسيرتها الأولى قائدة ورائدة.
من المهم أن ينتبه الشباب العربي والشعوب العربية إلى أن صناعة التاريخ ممكنة وبناء المستقبل ممكن كلما ابتعدوا عن الشعارات الجوفاء والآيديولوجيات العمياء، وأن بالإمكان لمنطقة الشرق الأوسط أن تكون «أوروبا جديدة» تقدم نموذجاً للعالم أجمع في كيف يبنى المجد وتحقق الأحلام.
لا يوجد في اللغة العربية شعر ونثر ما يصف صناعة التاريخ في مدار كوكب المريخ، ببساطة لأن أمراً كهذا لم يحدث من قبل ولم يحلم به عربي في التاريخ، ولكنه يثبت القدرة على استئناف الحضارة، وأن الأوان لم يفت بعد.
أخيراً، فالعقل والحكمة يبنيان الدولة المستقرة الناجحة، بينما الشعارات والآيديولوجيات تهدم الدول وتنشر الفوضى.