عبد الباري عطوان
بينما تتقدّم قوّات حُكومة الوفاق المُعترف بها من قبل الأمم المتحدة والمدعومة من تركيا، نحو مدينة سرت في طريقها إلى قاعدة الجفر الجويّة في الجنوب الليبي، بعد إحكام سيطرتها على العاصمة طرابلس ومدينة ترهونة، تشهد القاهرة تَحرُّكًا سياسيًّا يتزعّمه الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي، وبحُضور السيّد عقيلة صالح، رئيس برلمان طبرق المُنتَخب، والجِنرال خليفة حفتر قائد “الجيش الوطني” تمخّض عن إطلاق مُبادرةِ سلام تحت عُنوان “إعلان القاهرة” تَنُص أبرز بُنودها على وقف إطلاق النّار ابتداءً من السّاعة السّادسة صباحًا من يوم الاثنين القادم وإخراج “الميليشيّات” الأجنبيّة مِن الأراضي الليبيّة والحِفاظ على وحدة البِلاد الترابيّة.
اجتماع القاهرة الذي استضافه الرئيس السيسي في قصر الاتحاديّة بحُضور السيّدين صالح وحفتر ووزير الدفاع والداخليّة ومدير المُخابرات العامّة إلى جانب رئيس مجلس الشعب المِصري، كان اجتماع “أزمة” الهدف الأساسي منه هو “ترميم” الشّروخ في التّحالف اللّيبي الذي تدعمه مِصر والإمارات وفرنسا، وتحقيق المُصالحة بين طرفيه، أيّ صالح وحفتر، ومُحاولة بحث الخطوة التّالية التي تتلوا الهزائم الميدانيّة العسكريّة التي مُنِيَت بها قوّات الجِنرال حفتر، وخسارتها بالتّالي مُعظم الغرب اللّيبي بِما في ذلك العاصمة طرابلس.
***
المُبادرة التي تمخّضت عن هذا الاجتِماع الطّارئ الذي رعاه الرئيس السيسي، جاءت مُتطابقةً تمامًا مع تلك التي أطلقها السيّد صالح قبل شهر، وكانت أساس خِلافه مع الجِنرال حفتر، خاصّةً بُنودها الجوهريّة التي نصّت على تأسيس مجلس رئاسي جديد برئيس ونائبين يُمَثِّلون جميعًا أقاليم ليبيا الثّلاثة برقة وطرابلس وفزان، ورئيس مجلس وزراء من غير إقليم رئيس المجلس، لفترةٍ زمنيّةٍ تمتد لعامٍ ونِصفِ العام للتّمديد.
الجِنرال حفتر كان قد رفض هذه المُبادرة في أيّامها الأولى، ونصّب نفسه رئيسًا على كُل ليبيا، وألغى اتّفاق الصّخيرات الذي انبثقت عنه حُكومة الوفاق ومجلسها الرئاسي المُؤقّت، بينما أيّدها السيّد فايز السراج، ولكن الآن وبعد تغيّر المُعادلات العسكريّة على الأرض وانهِيار قوّاته في الجبهات، وخسارته لمُعظم الغرب اللّيبي، تراجع الجِنرال حفتر وأعلن قُبوله لإعلان القاهرة والمُبادرة الجديدة التي تُجَسِّد عودةً للوراء 70 عامًا والوضع اللّيبي السّائد في حينها.
مِن المُفارقة أنّ السيّد السراج رحّب بمُبادرة السيّد صالح مُنذ اليوم الأوّل لإطلاقها قبل شهرين، ولكن من غير المُعتقد أنّه ما زال مُتمسِّكًا بهذا التّرحيب الآن، في ظِل التقدّم الكاسح لقوّاته، وقُرب سيطرتها على مدينة “سرت” “السرّة” الاستراتيجيّة للغرب والجنوب اللّيبي، وربّما اقتحام قاعدة “الجفرة” الجويّة في الجنوب (650 كيلومترًا جنوب طرابلس)، على غِرار ما حدث لقاعدة عقبة بن نافع “الوطية” جنوب غرب ليبيا.
السّؤال الذي يطرح نفسه بقوّةٍ الآن هو حول حقيقة النّوايا المُستقبليّة المِصريّة تُجاه الأزمة الليبيّة، فهل هذه المُبادرة تَعكِس تَوجُّهًا بالقُبول بالأمر الواقع على الأرض، أم هي مُجرّد “مُناورة” سياسيّة محسوبة بدقّة، لكسب الوقت، وإعادة تجميع صُفوف قوّات الجِنرال حفتر، تمهيدًا لتدخّلٍ عسكريٍّ مِصريٍّ مُباشرٍ لعدم ترك ليبيا ساحة نُفوذ لخصم مِصر الأوّل، أيّ الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان؟
كان لافتًا أنّ الرئيس السيسي أكّد طِوال مُؤتمره الصّحافي على مسألةٍ مُهمّةٍ وهي “أنّ أمْن ليبيا مِن أمن مِصر القومي”، مثلما كان لافتًا أيضًا غِياب أيّ مسؤول من دولة الإمارات العربيّة المتحدة الشّريك الأساسي لمِصر في المِلف اللّيبي لاجتِماع القاهرة المذكور، الأمر الذي يُثير العديد من علامات الاستِفهام جول طبيعة الخطوة المِصريّة القادمة.
هُناك نظريّتان مُتباينتان حول هذه المَسألة:
الأولى: تقول إنّ القِيادة المِصريّة لا يُمكن أن تقبل بهذه الهزيمة على الأرض الليبيّة، وترك ليبيا للنّفوذ التركي والتحكّم بشرق المتوسّط برًّا وبحرًا، وربّما تُمَهِّد بهذه المُبادرة للتدخّل العسكريّ، أيّ أنْ تقول مِن خلالها أنّنا جنحنا للسّلم، وتقدّمنا بها لحقن الدّماء، ولكنّ الطّرف الآخر رفَضَها، ولم يبقَ لنا إلا الخِيار العسكريّ دِفاعًا عن أمننا القوميّ، ولا تَلوموننا إذا لجأنا إليه.
الثّانية: تُؤكِّد أنّ مِصر التي أًصيبت بخيبةِ أملٍ كُبرى من تصرّفات حليفها الجِنرال حفتر “المُتهوِّرة” التي تسبّبت بهذه الانهِيارات لقوّاته في جبهات القِتال، قرّرت التمسّك بقرار جميع الحُكومات المِصريّة السّابقة، بعدم إرسال قوّات مِصريّة للقِتال خارج الحُدود المِصريّة، فمُهمّة الجيش المِصري الرئيسيّة الدّفاع عن الأراضي المِصريّة فقط، والأولويّة الآن للتّركيز على الحِفاظ على الحُقوق المائيّة المِصريّة التاريخيّة المُهدّدة من قبل سد النّهضة الإثيوبي، حسب ما ذكر لنا مَسؤولٌ عسكريٌّ كبيرٌ ومُتقاعد، ونحنُ ننقل عنه هُنا حرفيًّا.
يَصعُب علينا ترجيح أيّ من النّظريتين، لأنّ كُل واحدة منها تتضمّن وجهات نظر تستحق الاحتِرام، وإنْ كُنّا نعتقد أنّ القرار النّهائي في هذا الإطار سيكون للمؤسّسة العسكريّة، التي تُمثِّل الدّولة المِصريّة العميقة، وتُدير شُؤونها من خلف سِتار، فهي المُتّهمة باغتِيال الرئيس محمد أنور السادات، وهي التي أطاحت بالرئيس السّابق محمد حسني مبارك، وتقف خلف قرار مُحاكمته الصّوريّة، وتبرئته في نِهاية المطاف، وهي أيضًا صاحبة قرار إنهاء حُكم الإخوان المُسلمين، واعتِقال الرئيس محمد مرسي ومُحاكمته، ومن يقول بغير ذلك لا يَعرِف مِصر، ولا يَعرِف أيضًا تاريخ المُؤسّسات العسكريّة في مُعظم دول العالم الثّالث ابتداءً من تركيا ومُرورًا بالباكستان وانتهاءً بمِصر.
الرئيس أردوغان، اتّفق معه البعض أو اختلف، وضع كُل ثقله خلف حُلفائه في ليبيا، وأنقذ حُكومة الوفاق مِن الانهيار، وكان تدخّله حاسمًا في تحقيق انتِصاراتها الميدانيّة الأخيرة، سواءً بإرسال الطّائرات المُسيّرة التي شكّلت غاراتها نُقطةَ تحوّلٍ رئيسيّةٍ في سَير المعارك، وقطع إمدادات قوّات حفتر، أو بالحِراك الدّبلوماسي الذي تمثّل “بتحييد” الرّوس، عبر حفظ مصالحهم في ليبيا في صفقة يُقدّرها البعض بعشرات المِليارات من الدّولارات، ورسالته واضحة تقول إنّه لا يتخلّى عن حُلفائه مهما كلّف الأمر.
الحذر يظل مطلوبًا في أيّ تحليل للموقف الميدانيّ العسكريّ على الأرض الليبيّة، لأنّ السّاحة باتت ساحة صِراع لقِوى عُظمى وإقليميّة، والتّحالفات يُمكن أن تتغيّر، وكذلك الوقائع على الأرض، فحتى بضعة أشهر كان الجِنرال حفتر على أبواب قاعدة العزيزيّة في قلب العاصمة، ولنا في المشهد السوري الكثير من العِبَر أيضًا في هذا الإطار، فقوّات المُعارضة المدعومة بعشرات المِليارات من الدّولارات وعشَرات الآلاف من عناصر الجماعات المُتشدّدة اقتربت إلى قلب مدينة دِمشق تقريبًا في بداية الأزمة، وحتى قبل عامين فقط، وقبل أن تنقلها الحافلات الخضراء إلى إدلب.
***
الجِنرال حفتر أدرك الآن أنّ مدينة طرابلس خطٌّ أحمرٌ لا يُمكن اختِراقه، وهي أكبر من السّقوط والابتِلاع لوجود “تفاهمات” دوليّة وإقليميّة لا يُمكن تجاوزها، والشّيء نفسه يُقال أيضًا عن طُموحات السيّد السراج، والرئيس أردوغان في التقدّم نحو الشّرق والاستِيلاء على بنغازي، فالغرب غرب، والشّرق شرق، والجنوب جنوب، والظّروف التي مكّنت العقيد الراحل معمر القذافي من كسر هذه القاعدة وتوحيد البِلاد تحت رايته لم تَعُد موجودةً.
ليبيا تعود إلى الصّيغة الكونفدراليّة والملكيّة، التي تتبلور حاليًّا، ولكن دون ملك وأُسرة حاكمة، ونحنُ أمام خريطة طريق قديمة مُتجدِّدة، والأقاليم الثّلاث تعود إلى الواجهة وتقتسم السّلطة والثّروة النفطيّة.
راقِبُوا الحِصان الأسود الجديد واسمه عقيلة صالح فقد يكون ملك ليبيا الجُمهوري المُؤقّت، والخِيار الثّالث المَقبول مِن مُعظم الأطراف.. وكُل المُفاجآت واردة.. واللُه أعلم.