بقلم : عبد الباري عطوان
قليلون هم الذين عرفوا الدكتور رمضان عبد الله شلح عن قُرب، ويُشرّفنا أن نكون من بين هذه القلّة، ولهذا كان حُزننا كبيرًا بفُقدانه، فقد كان قامةً جهاديّةً وعلميّةً وإنسانيّةً شامخةً في التّاريخ الفِلسطيني مِن الصّعب نِسيانها أو تعويضها، مثلما كان صديقًا وفيًّا نجده مصدر إلهامٍ ودعمٍ في المفاصل الصّعبة، الوطنيّة والشخصيّة.
التّاريخ الجِهادي الفِلسطيني حافلٌ بالشخصيّات القياديّة التي لعبت دورًا متميّزًا في مسيرة الثّورة، لكن الدكتور شلح (أبو عبد الله) يظَلّ علامةً فارقةً لتواضعه، وثقافته، ونسكه، وأدبه الرّفيع، ونهجه الهادِئ، وترفّعه عن الصّغائر، حيث كان موضع إجماعٍ، وعُنصر توحيدٍ في هذه الثّورة، وفي هذه الظّروف الحرجة التي تَمُر فيها
عندما تجلس معه، لا تشعر أنّك في معيّة قائد لحركة جهاديّة فِلسطينيّة قدّمت مِئات الشّهداء، وزهدت قيادتها وعناصرها في المناصب، والمال ومُغريات الدنيا، ونأت بنفسها عن السّلطة وامتِيازاتها، وعارضت بقوّةٍ كُل الاتّفاقات الاستِسلاميّة، وعلى رأسها اتفاقيّة أوسلو، وظلّت تُؤمِن، وتُقاتل، من أجل تحرير فِلسطين، كُل فِلسطين من البحر إلى النهر، وطُموحها الأبرز الشّهادة لتحقيق هذا الهدف.
***
عندما زُرناه في بيته المُتواضع في أحد أحياء مدينة دِمشق التي أحبّها، مساء أحد الأيّام، قال لنا أنتم تجلسون على المقعد الذي كان يجلس عليه بالأمس، وفي مثل هذا التّوقيت (العاشرة مساءً) الشهيد الحاج عماد مغنية، قائد الجناح العسكري لـ”حزب الله” حيث تناولنا طعام العشاء سويًّا، وامتدّت بنا السّهرة حتّى الفجر، حيث أدّينا صلاة الفجر سويًّا، ثم انطلق بعدها مُتّجهًا إلى بيروت، رافضًا أن يبيت معنا كعادته في بعض الأحيان، لأنّ هُناك مهمّة كبيرة في انتظاره هُناك، وعلمنا بعد ذلك أن هذه المهمّة هي أسر جُنديين إسرائيليين من قبل خليّة تابعة لحزب الله كان هو قائِدها ومُهندسها في 12 أيّار عام 2006، وهي العمليّة التي أدّت إلى عُدوانٍ إسرائيليٍّ تمخّض عن أكبر هزيمة في تاريخها وتدمير هيبة الجيش الإسرائيلي وسُمعته.
كان رحمه الله مُولَعًا بالقراءة باللّغتين العربيّة والإنكليزيّة، وجمع بين الثّقافة الواسعة والمُتنوعّة، والقُدرة العالية على التّحليل الاستراتيجي، ليس لأنّه كان يحمل درجة الدكتوراة في الاقتصاد من جامعةٍ بريطانيّةٍ، وإنّما لشغفه الشّديد أيضًا بمُتابعة كُل صغيرة وكبيرة تتعلّق بالعدو الإسرائيليّ والعُلاقات الدوليّة، ورصد ما يجري في العالم من أحداثٍ وصِراعاتٍ، بين الشّرق والغرب، علاوةً على تعمّقه في الدّراسات الإسلاميّة بحُكم مُيوله وشغفه.
لا يعرف إلا القلّة أنّه كان مُغرمًا بالشّعر العربيّ، ويحفظ مِئات القصائد عن ظهر قلب، خاصّةً للمتنبّي وأبي العلاء المعرّي، ومالك ابن الريب وقصيدته الأشهر التي رثا فيها نفسه وهو جريحًا على سرير الموت، ومُعظم الشّعراء البارزين في العصر الذهبي للشّعر العربي، مثلما كان مُغرمًا بكُل إنتاج محمود درويش الشّعري، وقال إنّه، أيّ الدكتور شلح، كان يقرض الشّعر، وكتب العديد من القصائد، لكنّه توقّف لأنّه “لا شِعر ولا شُعراء ولا إبداع بعد محمود درويش”.
كان الدكتور شلح واحد من ثلاثة طلّاب بذَروا بذرة التّأسيس الأولى لحركة الجِهاد الإسلامي، عندما كانوا يدرسون في الجامعات المِصريّة في أواخر السّبعينات من القرن الماضي، وكان الأوّل الدكتور فتحي الشقاقي، ابن مخيّم رفح في القِطاع، وأوّل أمين عام للحركة، ونعتذر عن ذكر الشّخص الثّالث لأنّه لم يُعطِنا الإذن بذلك، ليذهب الدكتور شلح بعدها إلى بريطانيا لدراسة الاقتصاد ونيل درجة الدكتوراة، ثم التّدريس في أحد جامعاتها قبل أن ينتقل إلى أمريكا والتّدريس في جامعةٍ أمريكيّةٍ حتّى عام 1995، ولكن لم يُطِل هذا الانشِغال عن العمل الجِهادي حيثُ لبّى نِداء زملائه بترك كُل شيء والعودة من أمريكا لتولّي زعامة الحركة بعد اغتِيال الشهيد فتحي الشقاقي في مالطا عام 1995.
ذكر لنا رحمه الله، أنّه هاتف والدته في حي الشجاعيّة في قِطاع غزّة ليُشاوِرها في أمرِ تولّي هذا المنصب، فكان ردّها مُشجِّعًا، وقالت له بالحرف الواحد مثلما روى لنا “أنت ابن فِلسطين، وتتميّز بالشّجاعة، وقد اختارك الله لهذه المُهمّة المُشرّفة، فامْضِ قُدمًا، ولا تتردَّد، الله يحميك يا ابني، فهل هُناك أغلى من الشّهادة في سبيل الوطن؟”.
تميّز المرحوم بالأدب الجم، والحِرص على اختِيار كُل كلمة نقد بعنايةٍ لمن يختلف معهم في الثّورة الفِلسطينيّة، ورفض كُل الضّغوط والمُغريات لدُخول أيّ انتخابات فِلسطينيّة في إطار اتّفاقات أوسلو، وحَرِصَ على أمرٍ واحدٍ وهو قِتال الاحتِلال فقط لتحرير فِلسطين كُل فِلسطين غير منقوصة ملّيمترًا واحدًا، لهذا أحبّه واحترمه الجميع، وكان “أيقونةً” بالنّسبة لعناصر الحركة ويعتبرونه قائدًا ورمزًا وقُدوةً.
روى لنا في أحد الجلسات قصّةً قال إنّها أثّرت في نفسه كثيرًا، مُوجَزها أنّ شابًّا من حي الشجاعيّة (يأخذ الحي اسمه من شجاعة رجاله وبأسهم الشّديد) وهو مسقط رأس أبو عبد الله، أصرّ على أن يُنفِّذ عمليّةً استشهاديّةً ضدّ الاحتِلال، وعَلِمَ الدكتور شلح أنّه وحيد والديه، فهاتفه ليُثنيه عن أداء هذه المُهمّة، والتفرّغ لرعايتهما لتقدّم سنّهما، ولكنّه أبى وترجّاه أن يُنفِّذ العمليّة إذا كان يُحبّه، وأن يموت شهيدًا، فِداءً لفِلسطين، وقَبِلَ إلحاحه مُجبرًا، وكان له ما أراد، وانضمّ هذا الشّاب إلى قوافل الشّهداء.
***
إرث الدكتور الشهيد رمضان عبد الله شلح الجِهادي طويلٌ وعميقٌ وحافلٌ بالمواقف والرّوايات الوطنيّة المُشرّفة، ويحتاج إلى كُتبٍ عديدة لسَردِه وتوثيقه وجمعه، ووفاته جاءت خسارةً كبيرةً لفِلسطين والأمّتين العربيّة والإسلاميّة، وعزاؤنا أنّ حركة الجهاد الإسلامي التي كان أحد مُؤسّسيها تطوّرت تحت قِيادته، وتحوّلت إلى قوّةٍ ضاربةٍ تملك ترسانةً من الصّواريخ التي تَقُض مضاجع الإسرائيليين قيادةً وشعبًا، ووصلت صواريخها الدّقيقة إلى قلب تل ابيب ومطارها، وجعل إحداها بنيامين نِتنياهو يهرب مِثل الجِرذ أثناء خطاب انتخابي له في مدينة عسقلان قبل سبعة أشهر وجرى إطلاقه للثّأر لاغتِيال القائد الميداني المُجاهد بهاء أبو العطا.
تعازينا الحارّة للشّعب الفِلسطيني والأمّتين العربيّة والإسلاميّة، وحركة الجهاد الإسلامي، وقائدها الفَذ زياد النخالة، الرّجل الذي رافق المرحوم مِثل ظلّه، وكان صديقه، وزميله وشريكه الوفيّ طِوال مسيرته الحافلة بالعطاء، وتسلّم الرّاية القياديّة بشجاعةٍ ورجولةٍ طِوال فترة غياب الدكتور شلح لأكثر من عامين بسبب المرض، وكان نِعم الخلف لنِعم السّلف، فِلسطين ولّادة.. وعطاء أرحام نسائها خصبٌ ووفيرٌ ولن يتوقّف بإذن الله، رحم الله الفقيد وأدخله نعيم جنّاته… وإنّا للهِ وإنّا إليه راجعون.