بقلم : عبد الباري عطوان
عندما يتباهى جيمس جيفري المبعوث الأمريكيّ إلى سورية بكُلِّ وقاحةٍ وغطرسةٍ، أنّ حُكومته تَقِف خلف انهِيار اللّيرة السوريّة، وما ترتّب على ذلك من اهتِزازِ الثّقة بالاقتِصاد، وحالة الارتباك المُترتّبة على ذلك في الأسواق، مع اقتِراب تنفيذ قانون “قيصر” والبَدء في تطبيقه بعد أسبوع (مُنتصف شهر حزيران ـ يونيو الحالي)، فإنّ هذا “إعلان حرب” وخطوة رئيسيّة على طريق تغيير النّظام، وبثّ حالةٍ من الفوضى في سورية، وربّما مِنطقة الشّرق الأوسط برمّتها.
التّحالف الأمريكيّ الإسرائيليّ فَشِل في إسقاط النظام السوري بدعم المُعارضة المسلّحة، والتدخّل العسكريّ المُباشر، وإنفاق مِئات المِليارات من خزائنه وخزائن حُلفائه في الخليج، والآن عادت أمريكا إلى تطبيق “النّموذج العِراقي” معكوسًا، أيّ البَدء بالحِصار الاقتصاديّ التجويعيّ الخانِق تمهيدًا لتركيع الشّعب ودفْعِه للبحث عن بدائلٍ أخرى للخَلاص، وبِما يُمَهِّد للغزو، ومن ثمّ الاحتِلال.
اللّافت أنّ هذه الهجمة الأمريكيّة الجديدة على سورية ولبنان المَصحوبة بحربٍ نفسيّةٍ عمودها الفِقريّ شائعات إسرائيليّة عبر وسائل التّواصل الاجتماعي، تتحدّث عن اضطّرابات، ومُحاولة انقلاب، وإطلاق نار في قلب دِمشق، ومِن المُؤسِف أنّ طابورًا خامِسًا سُوريًّا، في الدّاخل والخارج يُروّج لهذه الإشاعات الكاذِبَة على وسائل التّواصل الاجتماعي.
***
جيمس جيفري يَكذِب مِثل رئيسه ترامب عندما يقول إنّ حُكومته تُريد عمليّةً سياسيّةً لا تقود إلى تغيير النّظام وإنّما سُلوكه، شريطة أن يتخلّى عن المُنظّمات الإرهابيّة (حزب الله والفصائل الفِلسطينيّة)، وفكّ الارتِباط مع إيران، وإخراج قوّاتها من أراضيه، وهي الشّروط التي ستتناسل وتُفرِّخ أُخرى وبِما يُؤدِّي إلى إضعاف الدّولة السوريّة، ونزع هُويّتها الوطنيّة، وسِيادتها واستِقلالها.
القِيادة السوريّة رفضت عُروضًا بعشَرات المِليارات مِن دول خليجيّة للقُبول بالشّروط نفسها، أيّ الابتِعاد عن إيران ووقف الدّعم لأذرع محور المُقاومة العسكريّة، مثلما رفضت خط غاز قطري يمتد إلى تركيا لضرب الغاز الروسي في حينها، واختارت مُقاومة المُؤامرة.
لا نعتقد أنّ السّلطات السوريّة ستقع في المِصيَدة نفسها التي وقعت فيها نظيراتها في العِراق وليبيا ومنظّمة التّحرير الفِلسطينيّة عندما صدّقت هذه الوعود الأمريكيّة وانتهت إمّا بغزوٍ عسكريٍّ ونصب المشانق لقِيادتها (صدام حسين وبعض رفاقه) أو الاغتِيال بالسُّم (ياسر عرفات) أو إسقاط النّظام بطائِرات حِلف النّاتو لزعيمه (معمّر القذافي).
قيادة محور المُقاومة ارتكبت خطأً استراتيجيًّا كبيرًا في نظرنا عندما لم ترد من اليوم الأوّل على الاعتِداءات الإسرائيليّة والأمريكيّة، وأيًّا كانت مُبرّراتها، فالتحلّي بضبط النّفس، وعدم الرّد على هذه الاعتِداءات بأشكالِ المُقاومة كافّة، ومُنذ اليوم الأوّل، هو الذي شجّع الأمريكان والإسرائيليين وطابورهم الخامس في المِنطَقة على التّمادي في العُدوان، وإصدار مِثل هذه القوانين الظّالمة والاستفزازيّة، ومِن غير المُستَبعد إصلاح هذا الخَطأ في الأسابيع والأشهُر المُقبلة.
دولة الاحتلال الإسرائيلي نقطة ضعف التّحالف الأمريكي، لا تستطيع تحمّل ضربة عسكريّة واحدة، ولنا في تجربة المُقاومة في قطاع غزّة، وقبلها في جنوب لبنان الدّروس الأبلغ في هذا الصّدد، وشاهَدنا كيف هرول بنيامين نِتنياهو أكثر من مرّةٍ إلى القاهرة طالبًا وقف إطلاق الصّواريخ في الحُروب الأخيرة التي لم تستمر أكثر من ثلاثة أيّام خِشيَة أن تصل هذه الصّواريخ، على بدائيّتها، إلى تل أبيب ومطارها.
الحِصار التّجويعي الذي فرضته الولايات المتحدة على العِراق من خِلال حُلفائها في الخليج، وعبر إغراق الأسواق بملايين براميل النّفط الإضافيّة لتخفيض الأسعار إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل، دفع القِيادة العِراقيّة إلى اتّخاذ قرار غزو الكويت، ومن غير المُستَبعد أن يُؤدِّي هذا الاستِهداف التّجويعي الأمريكيّ للاقتِصاد السوريّ والعُملة المحليّة، عموده الفِقريّ، إلى دفع قيادة محور المُقاومة لاتّخاذ قرار بالتخلّي عن سِياسة ضبط النّفس، وهدم المعبد على رؤوس الجميع.
فإذا كان هدف أمريكا تجويع الشّعب السوري وإذلاله، ومنع انطلاق عمليّة إعادة الإعمار، فإنّ هذا الشّعب، أو النّسبة الأكبر منه، قد تُفَضِّل الموت في ميادين المعارك على أنْ يرى أطفاله تموت جُوعًا أمامه، وله في نظيره اليمنيّ المُقاتل الشّرس للعُدوان خير مِثال.
***
سورية تملك جيشًا قويًّا مُتماسِكًا ومُلتَفًّا حول قِيادته، واستطاع أن يحمي الدولة السوريّة، وإعادة سيطرتها على أكثر من 85 بالمِئة من أراضيها، ومن غير المُعتَقد أن يقبل هذا الجيش هذه العُقوبات الأمريكيّة المُقبلة، ويقف صامتًا ومُتفرِّجًا على تحلّل دولته، وفَتْكِ الحِصار بأبنائها.
لا نستبعد أن تبدأ عمليّة التّعبئة للحرب ونُزول الشّعب السوري إلى الشّوارع احتِجاجًا على هذا القانون الجائِر، وتضامنًا مع حُكومته وقِيادته في الأيّام القليلة المُقبلة، ومثلما أفشل هذا الشّعب مُخطّط التّفتيت بصُموده سيُفشِل مُخطّط التّجويع بسواعِد أبنائِه وجيشِه.
المُقاومة العِراقيّة أفشلت الغزو والاحتِلال الأمريكيين، وأجبرت القوّات الأمريكيّة على الانسِحاب مهزومةً، والمُقاومة الأفغانيّة فعلت الشّيء نفسه رُغم إمكانيّاتها المُتواضِعَة، وليس لدينا أدنى شك بأنّ المُقاومة السوريّة المدعومة من محور المُقاومة ستتصدّى لهذا العُدوان الأمريكيّ الإسرائيليّ وتُحَقِّق الانتِصار نفسه، إنْ لم يَكُن أكثر.. والأيّام بيننا.