بقلم/رضوان السيد
منذ القرن التاسع عشر، وربما قبل ذلك، شغلت المفكرين الغربيين المسألةُ المهمة التالية: الأمة والدولة، أيهما تُنشئُ الأُخرى؟ وفي العادة كانت الإجابة السهلة أنّ الأمور تختلف من حالة لأُخرى. ففي ألمانيا وإيطاليا تقدمت الأمة على الدولة، أما في أميركا فإنّ الدولة هي التي صنعت الأمة.وما كان هذا السؤال الكبير يشغل ديفيد هيرست D. Hirst عندما كتب كتابه الصغير عن لبنان بعنوان: Beware of Small States (حذارِ من الدول الصغيرة)! عند هيرست أنّ الشعب اللبناني مكوَّن من فئات طائفية تضيق إحداها في كل فترة بالفئات الأُخرى، فتشن عليها حرباً تظلماً أو استقواءً، وتعمد الفئة أو الفئات الأُخرى للاستعانة بالخارج القريب أو البعيد. والسبب الثاني للحروب الأهلية المتوالية أطماع الدول القريبة بالبلد الصغير بالنظر لميزاته وإغراءاته؟
والسبب الثالث وهو خاصٌّ بحالة لبنان قيام الكيان الإسرائيلي على حدوده، وتشريده للشعب الفلسطيني والذي شن حرب تحريرٍ من لبنان بعد أن عجز عن شنها من الداخل الفلسطيني أو من مكانٍ آخر. والسبب الرابع اجتماع الأمور الثلاثة في حالة «حزب الله»: التظلم والطمع، والتحرير، والتدخل الخارجي.من الناحية التاريخية، ليست هناك أُحْجية بشأن قيام الدولة اللبنانية. ففي عام 1920 أنشأ الفرنسيون دولة لبنان الكبير. ولا فرق كبيراً في الحقيقة بين الدولة الطبيعية والأُخرى المصنوعة، فقد درستُ في ألمانيا، وهي اليوم دولة ناجحة بكل المقاييس، ومع ذلك لا يزال كثيرون في جنوب ألمانيا متذمرين من أنّ الشمال الألماني هو الذي أرغمهم على الدخول في المشروع الموهوم للأمة الألمانية، الذي كلف أوروبا عدة نزاعات قتالية، وكلف العالم كله حربين عالميتين!
ولماذا هذا الاستطراد؟ لأنّ الفرنسيين ضموا أجزاء جغرافية واسعة إلى جبل لبنان، وبالطبع مع سكانها الذين ما كان وعيهم ولا كانت مصالحهم يومها تشجّع على الانضمام! هل هي ذكرياتٌ بعيدة؟! نعم هي ذكرياتٌ بعيدة وربما ما عاد لها مبرر. فليس هناك اليوم لبناني واحدٌ يرغب في استبدال الوطن أو الدولة. إذ بين التوافقات والنزاعات، صار هناك عيشٌ مشتركٌ وإنْ بعد لأْي، رغم أنّ الدستور اللبناني الأول أعلن عن قيام دولة الأمة اللبنانية بالفعل عام 1926، والمعروف أنّ كثرة من المسيحيين اللبنانيين كان في وعيها أنه يصعُبُ من دون الفرنسيين الاستقرار والاستمرار؛ لكنّ النُخَب اللبنانية المسيحية والإسلامية تحالفت معاً عام 1943 على إخراج الفرنسيين، وأعلنت معاً عن استقلال لبنان.
إنما منذ ذلك الزمن البعيد نسبياً ظهر أن هناك حاجة إلى راعٍ بديلٍ للكيان اللبناني في النظام الدولي الجديد، والذي ما عادت فرنسا فيه قادرة على هذه الهيبة والممارسة. وبدون طول سيرة، كما يقال عندنا، تظلَّل الشرق الأوسط، كما يصار يُسمّى بالظل الظليل للولايات المتحدة في زمن الحرب الباردة. وتوالى على الرعاية القريبة للبنان كلٌّ من مصر ومن بعدها المملكة العربية السعودية. إنما بسبب هزّة حرب التحرير الفلسطينية من لبنان، صار لكلٍ من إسرائيل وسوريا وبالتقاسم والترتيب إشرافٌ صميمٌ على الداخل اللبناني. وحجة الطرفين أو الدولتين أنّ وطننا وبسبب هشاشة أوضاعه الداخلية وقابليته للاضطراب الذي يفيض نحوهما - صار جزءاً من أمنهما الاستراتيجي!
وخلال قرابة الثمانية عقود، ما ظهر عيشٌ مشتركٌ بين اللبنانيين وحسْب؛ بل وظهر نظامٌ للعيش الزاهر والغني بالكفاية والتنوع والحداثة. ظهر عنقود متماسكٌ حافلٌ بالعمران والثقافة والمدارس والجامعات والمستشفيات والمصارف والتبادل التجاري المزدهر، والتواصلات الباعثة على نهوض هائل في العلاقات مع العالم. وقد كان ذلك كلّه مغْرياً على التغالب بالداخل (رغم المعرفة بوجود إسرائيل وسوريا أو بسببها!)، ومُغْرياً للخارج القريب وأحياناً البعيد بمدّ أسبابٍ وسُبُلٍ للنفوذ والاستفادة والاستخدام بشتى الأشكال.
لقد أدّى التغالب الداخلي بين النخب السياسية والمالية إلى ظهور راديكاليتين عند المسيحيين والشيعة. ولدى كلٍّ منهما؛ فإنّ الراديكالية حصلت على الأكثرية بداخل كل طائفة. وبقيت للنظام والاستقرار أكثرية معتدلة بين السنة، الذين تتولى شخصياتٌ منهم رئاسة الحكومة (السلطة التنفيذية)، فتتوسط بالداخل، وتصل بالعالم العربي. لكنّ هذا «التوازن» الشديد الحساسية ما لبث أن اضطرب عندما وصل للسلطة بسوريا بشار الأسد بعد وفاة والده عام 2000 فأراد المزيد من النفوذ بالداخل اللبناني، كما أرادت إيران التي أشرفت على إنشاء التنظيم الشيعي المسلَّح باسم «حزب الله» من أجل التحرير - استخدام لبنان في صراعها مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل ومع العرب. وهكذا أقدم الطرفان بالاشتراك على ضرب عامل التوازُن والاستقرار باغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005.
إنّ ما جرى ويجري بالداخل اللبناني وعليه منذ حدث الاغتيال، عبارة عن تداعيات: تحالف بين الرايكاليتين الشيعية والمسيحية (منذ العام 2006) للاستيلاء على كل مؤسسات الدولة اللبنانية بما في ذلك المؤسسات الدستورية: رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس النواب والغالبية النيابية، ورئاسة الحكومة (بالتعطيل أو بالاستتباع)، وقطع علاقات لبنان بالعرب وبالخارج العالمي، وإحلال سياسات الفساد والهدر والقوة ووهج السلاح في سائر المرافق وعليها. وقد أدت هذه الممارسات بمجموعها إلى انهيار شاملٍ لسائر المرافق والمؤسسات. فحتى مصارف لبنان وهي أقدم بنوك العالم العربي وأكثرها ازدهاراً، جرى إقفالها، ولا يعلم المودِعون ماذا صار في ودائعهم حقيقة حتى الآن. ولذلك قال أحد الباحثين الشباب: تحالف الميليشيا والمافيا هو الذي يحكم لبنان!
لقد تأخر اللبنانيون كثيراً لكنهم ثاروا أخيراً على مشارف الانهيار في تشرين عام 2019، لكنّ وسائل الراديكاليتين الأمنية و«كورونا» أخمدتا الثورة، التي حلّت محلَّها أو حاولت تحركات تخريبية في المناطق السنية.
هل من هذا المأزق مخرجٌ لدولة هيرست الصغيرة؟
قلت في مقالة: في عام 1989 ما كان قائد الجيش الجنرال ميشال عون يقبل بإنهاء الحرب إلاّ إذا صار رئيساً للجمهورية. لكنّ الرئيس حافظ الأسد وبموافقة العرب والأميركيين أخرجه من البلاد بالقوة. فهل تحلُّ إقالة عون من الرئاسة المشكلة هذه المرة أيضاً؟ الأمر اليوم أصعب من ذلك: لدينا عبء عون، وإضافة إليه: عبء الانهيار الشامل، وعبء الميليشيا المسلحة بصواريخها الدقيقة!