رضوان السيد
أتحدث هنا عن رؤساء الحكومة اللبنانية الأربعة السابقين. وما كنتُ ضدَّ تحولهم إلى ما يشبه القيادة السياسية للمسلمين السنة، وليس منذ استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2019، بل منذ عام 2017 عندما حصلت «حرب الجرود» ضد «داعش» كما سميت، واشتراع قانون الانتخابات العجيب. وكان سعد الحريري لا يحب
ذلك، باعتبار أنّ الاجتماع يؤثّر على توحُّده في القيادة، وأنه لا يريد أن تؤثر الاجتماعات وبياناتها على تحالفه الوثيق مع الرئيس عون. إنما عندما كثر خروج رئيس الجمهورية وصهره عن القوانين والأعراف والدستور، واشتدت ضغوط الجمهور على الحريري وعلى الثلاثة بدون أن يتزحزح الحريري عن موقفه الرافض للمجلس التشاوري؛ فإنّ الثلاثة بدأوا يجتمعون من دون الحريري، ويخبرونه أحياناً أو لا يخبرونه، بل ويُصدرون أحياناً بيانات في الأزمات، كانت تُغضب الحريري فيجفوهم أو يتصرف بما يعني اختلافه مع ملاحظاتهم وبياناتهم. وبالطبع صار الأمر أسهل بعد استقالة الحريري على وقع ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول). إنما رغم ذلك ما استقرّ رأي الرجل على الاستعانة بزملائه الشيوخ إلا بعد أن يئس من إمكان عودته لرئاسة الحكومة.
لقد بقيت اجتماعات الأربعة متقطعة، وصارت البيانات والملاحظات أكثر نُدرة. لكنْ أمكن محاصرة حسّان دياب المعيَّن من طرف الثنائي الشيعي، وجبران باسيل؛ وليس من جانب الأربعة بالدرجة الأولى والذين لم يقاطعه بعضهم إلا بعد أشهُر، وإنما حوصر من جانب الجمهور والإعلام والدبلوماسيين العرب. سميتُه في عدة مقالاتٍ: الرجل الذي لا وجه له ولا ظلّ! وقد أعان على نفسه بقلة الكفاءة، وانعدام الكاريزما، وانعدام الإنجازات، والزعم دائماً أن هناك مؤامرة انقلابية عليه، وأغرقته الأزمة الاقتصادية، والوباء الكوروني تماماً، إلى أن سقط تحت أنقاض المرفأ.
في الشهور الثلاثة الأخيرة ارتفع صوت الرئيس فؤاد السنيورة من بين الأربعة كثيراً لجهة الكشف عن الاستعصاء على الإصلاح، وتوقع الارتطام الكبير، والقول إنّ حزب السلاح غير الشرعي سبب رئيسي في الأزمة والحصار، إلى جانب مخالفات رئيس الجمهورية المستمرة للدستور. لكنْ عندما يجتمع الأربعة، وقد كثرت اجتماعاتُهم بعد سحق كارثة مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) لحكومة حسّان وللعهد القوي - فإنّ صوت السنيورة مع الآخرين يختفي ولا يصدر عنهم شيء لا عن بيروت ومصابها، ولا أخيراً عن حكم المحكمة الدولية يوم 18 أغسطس في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. يومها طالب الحريري من لاهاي بالقصاص، ثم لم يقل هو ولا زملاؤه شيئاً عن الموضوع بعد عودته إلى بيروت. وقد دعا السياسيون والقانونيون (ما عدا عون والحزب وبري) إلى تحقيقٍ دولي في كارثة المرفأ. بل إن البطريرك الماروني وقبل كارثة المرفأ وبعدها أطلق ثلاثية لإنقاذ لبنان أضلاعُها: تحرير الشرعية، وتحييد لبنان عن المحاور والنزاعات، وتطبيق القرارات الدولية. وتحت هول الكارثة ووطأتها استقال ثمانية نوابٍ ألماً وضجراً وسخطاً بينهم ستة من الموارنة من مختلف مناطق لبنان، ونائبة أرمنية، والنائب مروان حمادة، وما استقال أحدٌ من نواب السنة من بيروت، ولا من غير بيروت، فيا للفضيحة! يجتمع الرؤساء الأربعة فلا يقولون شيئاً عن المتطلبات السياسية والوطنية للحكم على مرتكب جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري! وكنتُ أرى في معظم مقالاتي أنه لا بد من إيقاف الشراكة السياسية مع حزب السلاح في الحكومات والحياة السياسية، ولا بد من ذكر مخالفة رئيس الجمهورية للدستور بعدم دعوته للاستشارات الملزِمة بعد استقالة دياب وحكومته. وهي الممارسة التي تابعها منذ استقالة سعد الحريري، بحجة أنه لا بد من إجراء مشاورات يستطيع هو من خلالها، وليس النواب، تحديد اسم رئيس الحكومة قبل استدعاء النواب للاستشارات الملزمة! هكذا فعل حتى اكتشف له الثنائي الشيعي حسان دياب، وهكذا فعل الآن حتى اكتشف له الفرنسيون مصطفى أديب الذي أدلى جبران باسيل بحقه بتصريحٍ ثنائي مجلجل!
وجاء الرئيس الفرنسي إلى لبنان حاملاً مبادرة مليئة بالأشواك، تتضمن تعويم حزب السلاح، والرئيس عون، في مقابل إجراء الإصلاحات الضرورية لكي يتمكن من مساعدة لبنان في المجال الدولي. لكنه وهو يطوف حانياً ومتعجلاً وموزعاً الابتسامات ووعود الدعم على الشباب والشيوخ، أقنع الجنرال النائم والزعيم الهاجم بالإشفاق على أهل السنة وأن يتركوا للرئيس سعد الحريري حق ترشيح الرئيس الجديد للحكومة باعتباره رئيس أكبر كتلة سنية في البرلمان. وسيقول القراء: لكنْ ما الداعي لذلك ما دامت هناك استشاراتٌ ملزمة بحسب الدستور؟ نعم، هناك داعٍ لسوء الحظ؛ فمنذ عام 2011 ما عاد النواب المسلمون السنة يختارون أو يشاركون في اختيار رئيس حكومتهم! في عام 2011 أسقط حزب السلاح سعد الحريري، واختار نجيب ميقاتي أحد الأربعة سالفي الذكر. ومنذ ذلك الحين صار الحزب المسلَّح مشكوراً إذا استأمر وليس إذا استأذن، إلى أن سمحوا لسعد الحريري عام 2016 بالعودة لرئاسة الحكومة في مقابل انتخاب الجنرال عون مرشحهم للرئاسة. وعندما «تجعلص» عليهم سعد الحريري من دون قصدٍ بالطبع وأتوا بنكرة، قد يكون ارتكب فضيلة واحدة طوال عهده الميمون وهي الاستقالة!
هل اختار الأربعة حقاً لحكومتنا رئيساً هو مصطفى أديب السفير الحالي في برلين، الذي كان موظفاً بمكتب الرئيس ميقاتي وهو الذي عينه سفيراً عام 2013 عندما كان رئيساً للوزراء في الحكومة التي سميناها حكومة اللون الواحد! قيل لي إنهم ناقشوا في مجلس الحريري كل الأسماء الممكنة وغير الممكنة. وسقط أول ما سقط الدكتور نواف سلام بحجة أن الحزب لن يقبله. لكن: ماذا إن لم يقبله المسلحون، وماذا حتى إن لم يحصل على الأكثرية في الاستشارات، لأنّ الغالبية في المجلس للثنائي الشيعي وحزب الرئيس؟ نكون قد رشحنا الأكفـأ والأكثر استقلالية، والذي يريده جمهورنا ويعرفه الدوليون ومنهم الفرنسيون. هل تعرفون ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنكم أيها الأربعة لم تختاروا هذه المرة أيضاً، بل اختار الآخرون كما اختاروا الرئيس ميقاتي عام 2011!
في الوقت الذي كان فيه الأربعة منشغلين بفنقلة الأسماء والاسم المختار أخيراً في جيب أحدهم، كان المفتي الشيعي قبلان يطلب إلغاء الدستور وحتى الميثاق الوطني الأول، لكراهيته للطائفية، ولأنه يريد «الدولة المدنية» تصوروا! وكان حسن نصر الله لا يرى مانعاً في عقد سياسي جديد. وكان رئيس الجمهورية في خطاب المئوية يعتبر تاريخ لبنان سلسلة من الأزمات والحروب، ولذلك يريد الخروج من الطائفية والمحاصصة والفساد، بتغيير الدستور، وإقامة الدولة المدنية، مثل أحمد قبلان، وكل ذلك كراهية للطائف والدستور!
كل هذه الوقائع، أيها الأربعة الأشاوس، ولا كلمة عن كارثة بيروت، ولا عن حكم المحكمة الدولية على كادرٍ من حزب السلاح غير الشرعي، ولا عن الدستور الذي لم يبق له غير البطريرك الراعي. كنا خائفين من افتراقكم، وجمهورنا الآن خائب الأمل في اجتماعاتكم البائسة ونتائجها. أرجوكم لا تعودوا للاجتماع، حتى لا تزداد الكوارث على هذه الجماعة!