أمير طاهري
حال انتخابه في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فسيصبح جو بايدن الرئيس الأميركي صاحب الارتباط الأطول بالسياسة الخارجية. ونقول هنا «ارتباطاً» لأنه يتميز بخبرة مباشرة وغير مباشرة في ذلك المجال، فعلى امتداد نحو 30 عاماً عضواً بمجلس الشيوخ؛ بما في ذلك فترات عمله رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في المجلس، تمتع بايدن بموقع متميز يمكنه من متابعة الشؤون الخارجية. وبعد ذلك، وخلال فترة عمله طوال ثماني سنوات نائباً للرئيس باراك أوباما، اكتسب بايدن خبرة عملية كبيرة.
وعليه؛ فإنه فيما يخص السياسة الخارجية، ينبغي الإنصات للرجل جيداً. ومع اقتراب الحملة الانتخابية الرئاسية من محطتها الأخيرة، يعمد بايدن إلى التباهي بمؤهلاته في مجال السياسة الخارجية خلال الأحاديث والخطابات التي يلقيها أمام مؤسسات فكرية؛ أحدثها الأسبوع الماضي في ورقة مؤلفة من 80 صفحة.
والتساؤل هنا: ما الذي نتعلمه من كل ذلك؟
الأمر الأول أن بايدن لا يطرح أفكاراً جديدة يمكنها دفع متصيدي الأخبار الجديدة للقفز فرحاً. في واقع الأمر، يقضي بايدن أغلب الوقت في إطلاق وعود بالعودة إلى سياسات أوباما أو نسخة أقل إثارة مما يفعله ترمب رئيساً للبلاد.
وربما يسعى بايدن من وراء ذلك نحو الظهور بمظهر الشخص القادر على تحقيق الحلول الوسط، والفوز بدعم أنصار أوباما من دون إثارة سخط أنصار ترمب.
أما الأمر الثاني الذي يتعين علينا تعلمه، فهو أنه رغم إدراكه أن النظام العالمي في حقبة ما بعد الحرب العالمية يمر بأزمة، فإن بايدن لا ينظر للأمر على أنه مشكلة هيكلية، وإنما سلسلة من العيوب التي يتعين إصلاحها عبر حلول جزئية وإعادة تزيين.
والملاحظ أن بايدن ليس لديه الكثير لقوله بخصوص إصلاح الأمم المتحدة وما يزيد على 30 منظمة أخرى فقدت أهميتها، بل وربما تحولت إلى هياكل بيروقراطية مؤذية.
في المقابل، نجد أن ترمب يوضح المشكلة من دون طرح حل لها بخلاف الانسحاب في بعض المناسبات. إلا إن الغموض الذي يتسم به بايدن على هذا الصعيد ربما يمكن تفهم أسبابه بالنظر إلى أنه سياسي محافظ، مما يجعله حذراً تجاه الخيارات الراديكالية، الأمر الذي قد يثير غضب جماهير بيرني ساندرز.
والملاحظ كذلك أن بايدن مهمل في تعامله مع المصطلحات. على سبيل المثال، لدى حديثه عن العلاقات مع الصين وروسيا، لا يبدو بايدن واثقاً بكيف يمكنه وصف هذه العلاقات، ففي بعض الأحيان ينظر إلى هذه العلاقات على أنها «تحدٍّ»، وفي أحيان أخرى يصف البلدين بأنهما «منافسان» أو «خصمان».
ويقول بايدن إنه يتفق مع ترمب فيما يخص الصين بوصفها تشكل «تحدياً خطيراً»، وتمارس الغش فيما يتعلق بقواعد التجارة، وتمنح أموال دعم لشركاتها، وتسرق الممتلكات الفكرية للآخرين، وتسببت في دمار ملايين الوظائف داخل الولايات المتحدة.
إلا إنه بعد ذلك يشن هجوماً حاداً ضد «سياسة المواجهة» التي ينتهجها ترمب إزاء الصين. إذن، ما الذي ينوي بايدن فعله؟ سيطالب بايدن «بمزيد من الشفافية» من جانب الصين. كما ينوي كذلك «العمل مع الحلفاء» لرسم ملامح سياسة مشتركة. إلا إن هذا يتطلب دوراً قيادياً أميركياً؛ الأمر الذي يحتاج بدوره إلى استراتيجية يجري طرحها على الحلفاء. إلا إن أياً من هذا غير متوافر الآن.
وفيما يخص روسيا، يتفق بايدن من جديد مع ترمب حول أنها «تهاجم أسس الأنظمة الغربية الديمقراطية». إذن، ماذا ينوي بايدن فعله حيال ذلك؟
يقترح بايدن التشاور مع الحلفاء من أجل فرض عقوبات «تكبد روسيا ثمناً حقيقياً».
أما فيما يخص بعض القضايا، يتبع بايدن أسلوب الإرجاء الذي تميز به أوباما. على سبيل المثال، بخصوص إيران يرغب بايدن في إحياء «الاتفاق النووي» الذي أبرمه أوباما والمعروف باسم «خطة العمل الشامل المشتركة»، بشرط أن تقدم إيران عدداً من الأمور التي لم يحددها. كما شدد من جديد على تأكيد ترمب بأن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بالحصول على أسلحة نووية، لكنها في الوقت ذاته لا تسعى نحو تغيير النظام فيها.
كما كرر بايدن قول ترمب بأن إيران تشكل عامل زعزعة استقرار في المنطقة، لكنه أضاف أنه لا ينبغي الدخول في حرب معها. علاوة على ذلك؛ أبدى بايدن موافقته على قرار ترمب قتل الجنرال قاسم سليماني بوصف ذلك «قراراً عادلاً بالنظر إلى طبيعة الدور الذي قام به».
وبالمثل، يتبع بايدن نهج الإرجاء ذاته تجاه فنزويلا، التي وصف رئيسها نيكولاس مادورو بأنه «طاغية» وأقر خوان غوايدو بوصفه الزعيم الشرعي للبلاد. إذن، ما الذي ينبغي أن تفعله واشنطن هنا؟
من جديد، يقترح بايدن التشاور مع الحلفاء.
ويصف بايدن حلف «الناتو» بأنه «التحالف الأطول أمداً في التاريخ»، الأمر الذي يذكرنا بالمزحة التي أطلقها ريتشارد نيكسون أمام سور الصين العظيم عندما قال: «السور العظيم عظيم!». إلا إنه من جديد؛ لا يطرح بايدن أي أفكار محددة لإعادة بث النشاط في صفوف ذلك التحالف. ووجه إلى تركيا، على وجه التحديد، انتقادات شديدة، وقال إنه حال انتخابه رئيساً فسيسحب الأسلحة النووية الأميركية من هناك. وأشار إلى أن تركيا ينبغي أن «تدفع ثمناً باهظاً»، ووعد بمساندة خصوم الرئيس رجب طيب إردوغان، ومن المفترض أن يكون هؤلاء تحت قيادة فتح الله غولن الذي بنى علاقات وثيقة مع إدارة أوباما.
الملاحظ أن الكلمة التي يرددها بايدن باستمرار، «حلفاءنا»، تتسم بالغموض. وفي هذا السياق، يتحدث بايدن عن «عودة التنافس بين القوى العظمى»؛ بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، من دون ذكر للأوروبيين. وأحيا بايدن من جديد فكرة «تحالف الراغبين» التي صاغها نائب الرئيس الأميركي الأسبق ديك تشيني، مقترحاً عقد «قمة للأنظمة الديمقراطية»، لكن من دون أن يكشف عمّن سيجري توجيه الدعوة إليه لحضورها.
يذكر أنه في الوقت الراهن يمكن النظر إلى نصف الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة بوصفها أنظمة ديمقراطية تتميز بدرجات متفاوتة من الشرعية.
والملاحظ أن أسلوب «القيادة من الخلف» الذي انتهجه أوباما يعود من جديد مع بايدن بخصوص كثير من القضايا.
ويتحدث بايدن عن سجن الصين 1.2 مليون من الأويغور، لكنه لم يجد كلمة أقوى من «غير مقبول» لوصف هذه الجريمة. والآن، ما العمل؟ الإجابة التي طرحها بايدن جاءت كالتالي: «التشاور مع الحلفاء والأمم المتحدة»، لكن الولايات المتحدة لا ينبغي لها الاضطلاع بدور القيادة في هذا الأمر.
أيضاً، يرغب بايدن في إحياء خطة الشراكة العابرة للمحيط الهادي التي كانت قائمة في عهد أوباما، ويلزم نفسه بالدفاع عن اليابان وإندونيسيا وأستراليا وكوريا الجنوبية في مواجهة التهديدات الصينية. إلا إنه نسي أن الصين تشكل أيضاً مصدر تهديد للفلبين وفيتنام، ناهيك بتايوان التي ترتبط معها الولايات المتحدة بترتيبات دفاعية خاصة.
فيما يخص كوريا الشمالية، يسخر بايدن من الدبلوماسية الشخصية التي انتهجها ترمب ويتعهد بعدم مقابلة كيم جونغ أون، في الوقت الذي يقترح فيه عقد مزيد من المفاوضات مع بيونغ يانغ.
وفيما يتعلق بالقضية الإسرائيلية ـ الفلسطينية، يقول بايدن إنه «صهيوني وفخور بذلك» ويدعم حل الدولتين، مع إصراره على أنه لن يمارس أي ضغوط مالية على إسرائيل كي تبدل سياساتها. كما أقر قرار ترمب نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
ومثل ترمب، يرغب بايدن في إنهاء الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان والعراق. وبخصوص أفغانستان، يرغب في الاستمرار في مساعي ترمب نحو التوصل لاتفاق مع «طالبان». وفيما يتعلق بالعراق، يبدو أن بايدن نسي أن اتفاق الانسحاب أقر في عهد جورج دبليو. بوش وأرجئ في عهد أوباما.
من ناحية أخرى، أبدى بايدن اختلافه مع ترمب بخصوص الانسحاب من سوريا، واصفاً ذلك بـ«الخيانة». إلا إنه نسي أن أوباما لم يرغب في أي مشاركة أميركية داخل سوريا.
ويتفق بايدن مع ترمب حول ضرورة إنفاق مزيد من الأموال على الجانب العسكري، لكنه في الوقت ذاته يقول إنه لن يستخدم القوة فيما عدا «الدفاع عن مصالحنا الحيوية».
أما التهديد الوحيد لمصلحة حيوية الذي ذكره بايدن فهو «وقف تدفق النفط»، لكنه هدد بعد ذلك باتخاذ خطوات بمقدورها الإضرار بعلاقات الولايات المتحدة بحلفائها من الدول المصدرة للنفط. أما «الحرب ضد الإرهاب» فسوف تستمر بالاعتماد على طائرات الـ«درون» والضربات الجوية مثلما كانت الحال في عهد رئاسة أوباما.
في الواقع؛ فإن المزيج من سياسات أوباما وترمب الذي يطرحه بايدن يمكن أن يبقي على الولايات المتحدة في مسار مبهم لأربع سنوات أخرى. الحقيقة أن هناك أمراً واحداً ربما يمكن لبايدن إنجازه: إعادة بناء الأسس البيروقراطية للسياسة الخارجية الأميركية التي تضررت بشدة جراء سياسات ترمب.