بقلم - طارق الشناوي
الفنان عندما يرى الجمال يقول (الله) سواء كان عليه توقيعه أم لآخرين، حكت لى شجون ابنة الموسيقار على إسماعيل أنها دخلت مكتبه فوجدته يبكى وهو يستمع إلى أغنية عبدالحليم «جبار»، وأخذت الطفلة تحتضن أباها وتبكى على بكائه، فقال لها وهو يغالب دموعه: (شايفه الأستاذ أندريا رايدر إزاى وزع اللحن).
هل تصلح هذه مقدمة للحديث عن موسيقار استثنائى فى تاريخنا، بدلا من تناول ما أضافه على إسماعيل نروى عن اعتزازه بما أضافه أندريا رايدر؟.
نغير إذن المقدمة، نكتب هذه، كان من عادة عبدالوهاب أن يدعو شباب الموسيقيين ليتعرف على آخر إنتاجهم، وأسمعه الطويل شريطا مسجلا لأغنية عبدالحليم حافظ (على قد الشوق) وكان حاضرا فى الجلسة محمد فوزى وموزع اللحن على إسماعيل، سأل كمال الأستاذ عن رأيه؟ فقال له «يعنى»، وعبدالوهاب بطبعه مجامل وتعبير «يعنى» فى المقياس الوهابى ليس له معنى آخر إلا (زى الزفت).
غادر الطويل منزل عبدالوهاب عازما على تغيير اللحن فقال له على إسماعيل إذا كان فيه عيب فهو التوزيع وليس «الميلودى» النغم، نهرهما محمد فوزى قائلا: (الأغنية تسجل كما هى)، وصارت (على قد الشوق) هى عنوان الغناء فى مصر عام 54، وبسببها تم إنتاج أول فيلم من بطولة عبدالحليم (لحن الوفاء).
هل يحتاج الحديث عن على إسماعيل الى مقدمة، أم أننا نتحدث عنه بمناسبة وبدون مناسبة؟.
إنه ابن المؤسسة العسكرية المصرية، والده كان قائدا للموسيقى الملكية والتحق هو بالقوات المسلحة، وكان عازفا بموسيقى الجيش، ثم انتقل إلى معهد الموسيقى المسرحية «فؤاد الأول»، ويجب ملاحظة أن كلمة مسرحية تعنى أن المعهد كان يضع الحس الدرامى من خلال البناء الموسيقى، وكانت بحق دفعة العباقرة كمال الطويل وعبدالحليم وأحمد فؤاد حسن وفايدة كامل وعبدالعظيم عبدالحق، ودرس مثل عبدالحليم فى قسم الآلات، وكان يعزف أيضا على آلة الأوبوا وأضاف لها الساكسفون، وتعلم العزف على البيانو وتتلمذ على يد الأجانب الذين كانوا منتشرين فى الملاهى المصرية، وحقق إنجازات مبكرة جدا فى فن الهارمونى «التوافق» والكونتربيونت «التضاد». إنه البناء الموسيقى القائم على تعدد الخيوط اللحنية.
على إسماعيل دائما ما يقفز فوق السور وهكذا مثلا فى وقت كان الجميع يتسابقون لتقديم أغان مليئة بالشجن لعبدالحليم يمنحه هو فى بدايته لحنا مشاغبا «يا مغرمين يا عاشقين» ويقدم للساحة الفنية الثلاثى المرح اللاتى اشتهرن بأغنيات «العتبة جزاز» و«يا اسمر يا سكر» و«مانتاش خيالى يا وله» وبعدها يقود أوركسترا فرقة رضا ويقدم ألحانه الجماعية مثل «فدادين خمسة»، قبل ذلك فى حرب 56 يحرك مشاعرنا بصوت فايدة كامل (دع سمائى فسمائى محرقة) وفى حرب الاستنزاف تغنى المجموعة (رايحين شايلين فى إيدنا سلاح)، وفى 73 لشريفة فاضل (أم البطل)، يمزج المشاعر الوطنية بالشجن بدفقة التحدى. له عشرات من الألحان التى تؤكد تفرده، وفى التوزيع راجعوا «ضحك ولعب وجد وحب» صوت المزمار وإيقاع الحصان، أو تذكروا «لا تكذبى» وكيف وزع هذا البيت الشعرى (ويشب فى قلبى حريق/ ويضيع من قدمى الطريق) أو راجعوا الموسيقى التصويرية لفيلم يوسف شاهين (الأرض) وأغنية (أرضنا العطشانة نرويها بدمانا).
ويرحل بعد 52 عاما قضاها على هذه الأرض ملأها أنغاما وإبداعا، فهل بعد كل هذا العطاء يستحق منا أن نبحث عن سبب حتى نتذكره!