بقلم - طارق الشناوي
فى تاريخ الأغنية المصرية، لا يمكن سوى أن نتوقف أمام هذا الشاعر الذى منح العامية الدارجة ألقًا وعبيرًا وألوانًا وبهجة ونشوة. عندما رحل الشاعر الغنائى الكبير مرسى جميل عزيز، كتبت على صفحات مجلة (روزاليوسف): (فى يوم فى شهر فى سنة /تهدا الجراح وتنام/ وعمر جرحى أنا/ أطول من الأيام)، وأضفت ستظل كلماته تعيش فينا أطول من أيامه وأيامنا!.
مر 41 عامًا على غيابه، ولا تزال كلماته حاضرة تتردد عبر كل المحطات الغنائية.. كلمات مرسى تحمل الإبداع الخاص الذى يتجاوز قيد الأغنية، لنجد أنفسنا نتعايش مع شاعر يحيل نبضاته إلى حروف تملك شعاعًا يضىء أعماقنا.. لو أنك حررت الأغانى من أنغامها وصوتها ووضعتها تحت مجهر الإحساس الشاعرى لوجدته مثلًا يقول فى (أنا بستناك) بصوت نجاة (مرايتى قوليلى يا مرايتى/ حبيبى ماجاش لدلوقتى/ وسابنى لوحدتى وانتى).. تجد مثلًا فى (تلات سلامات) لمحمد قنديل (عيونك سود/ وأقول مش سود/ عشان الناس/ تتوه عنك)، أو فى (سيرة الحب) وهى أول تعامل مع أم كلثوم (ياللى ظلمتوا الحب/ وقولتوا وعيبتوا عليه/ قلتوا عليه مش عارف إيه) لأول مرة تستخدم الست مفردة مثل (عيبتوا) منتهى الجرأة.. تابع هذه مع فريد الأطرش (اسمع لما أقولك/ ولا أقولك/ مش ح أقولك/ ما أنت عارف قصدى إيه/ من غير ما أقولك)، هو أكثر شعراء الأغنية تكرارا للكلمة الواحدة أكثر من مرة، ورغم ذلك فى كل مرة تزداد عبقرية وشاعرية، ومع محرم فؤاد (بس يعنى/ قصدى يعنى/ قولى يعنى) أو مع محمد فوزى (الشوق/ الشوق الشوق/ حيرنى/ الشوق الشوق/ سهرنى/ الشوق الشوق)، أو فى (ألف ليلة وليلة) بصوت أم كلثوم (الله محبة/ الخير محبة/ النور محبة) أو فى نفس الأغنية (إزاى إزاى إزاى/ أوصفلك يا حبيبى إزاى/ قبل ما أحبك كنت إزاى)!!.
قيمة مرسى تقدر بعمق إبداعه، وأيضًا بتلك الثورة الشاعرية التى أحدثتها كلماته فى مسار الأغنية العربية.. كان مرسى يلحن كلماته وهو يكتبها، وهكذا مثلًا توافقت أشعاره مع الموسيقار محمد الموجى. ولـ«مرسى» تعبير دقيق جدًا يقول: (عندما أسلم كلماتى للموجى أنام على مخدتى وأنا قرير العين)، قدم له فى البدايات مثلًا (يا أمه القمر ع الباب) بصوت فايزة أحمد التى أحدثت ثورة اجتماعية قبل أكثر من 60 عامًا، وتأملوا (ما عادش فيها كسوف/ يا أمه اعملى معروف/ قومى افتحى له الباب)، هاجموه بضراوة، اعتبروها أغنية تخرق الآداب العامة، وأكثر من إذاعة عربية مثل الأردن ظلت تمنع تداولها عدة سنوات.
أتوقف أمام (طيب يا صبر طيب) لعبدالمنعم مدبولى وتلحين كمال الطويل فى فيلم (مولد يا دنيا) لحسين كمال (ليه يا زمان العبر/ سوق الحلاوة جبر/ وإحنا اللى كانوا الحبايب/ بيسافروا بينا القمر/ بقينا أنتيكا/ دقى يا مزيكا)، حكى لى الموسيقار محمود الشريف أنه كان يجلس مرة معه فى نقابة الموسيقيين وكان بائع الثوم ينادى (توم الخزين يا توم) فوجد مرسى يكتب على نفس الإيقاع (توب الفرح يا توب/ مغزول من الفرحة/ ناقص يومين يادوب/ وألبس لك الطرحة) لتصبح أشهر أغانى أحلام. وروى لى المخرج عاطف سالم أنه فى فيلم (يوم من عمرى) قال له: عايزين أغنية فيها ضحك ولعب، فكتب على الفور لعبد الحليم (ضحك ولعب وجد وحب).
قدمت محطة الأغانى يومًا كاملًا احتفالًا بذكراه، إشراف الشاعر الغنائى ناصر رشوان، فكان يومًا لا ينسى، يفيض بالجمال لشاعر العسل والسكر.. مرسى.. الجميل والعزيز.