بقلم - طارق الشناوي
قال نجيب محفوظ «لو أعرف أن روايتى ستقرأ على مجموعة من الأميين لكتبتها بطريقة أخرى»، تأملوا هذا الرأى الذى يعنى أن الكاتب الكبير يضع أمامه أولا حق القارئ، سابقا حقه فى اختيار الأسلوب. هل الجمهور قبل المبدع دائما؟.. قطعا هى معادلة مراوغة، لا يمكن حسمها بتلك البساطة فى كلمتين، إلا أن من المهم العودة إلى الرقم الذى يتحقق فى شباك التذاكر وكثافة المشاهدة وتداول الكتاب وبيع الأشرطة، لا يمكن بأى حال أن نقلل من أهمية تلك المؤشرات، برغم أنها ليست الدليل الحاسم على القيمة الإبداعية، إلا أنها تحمل دلالة علينا أن نتأملها بدقة، عندما تتضاءل الإيرادات ويدير الجمهور ظهره للعمل الفنى ويلاقى فشلا ذريعا وإحجاما، يجب أن نحلل ظلال الأرقام وما تطرحه علينا من أسباب ودوافع مباشرة أو غير مباشرة.
فى الأشهر الأخيرة صارت الأفلام الجديدة تتبخر سريعا من دور العرض، نعم الجائحة التى يعيشها العالم، ضربت فى مقتل صناعة السينما، إلا أن أغلب هذه الأفلام بعيدا عن (كورونا) كانت ستلقى نفس المصير وربما أكثر.
لا تصدقوا عددا من صانعى هذه الأفلام، عندما يتشعبطون على أكتاف المخرج يوسف شاهين ويقولون: (لا تنسى باب الحديد وكيف رشقه الجمهور بالحجارة قبل أكثر من 60 عاما، ثم أصبح واحدا من أكثر الأفلام شعبية فى التاريخ)، ولا يزال يحظى فى نفس الوقت بمكانة متقدمة فى التقييم الفنى، احتل مثلا المركز الثانى عربيا بعد «المومياء» لشادى عبد السلام فى استفتاء أفضل 100 فيلم، الذى أجراه مهرجان دبى السينمائى الدولى 2013.. (المومياء) لا يزال فيلما نخبويا، بينما (باب الحديد) يستحق عن جدارة لقب الفيلم الشعبى.
فى كل الأحوال من حق صانع العمل الفنى، الدفاع عنه مستعينا بأسلحته لتجميل بضاعته، على شرط ألا يستخدم سلاحًا واحدًا باتت كل الأعمال الخاسرة تلجأ إليه وهو شماعة (باب الحديد)، ربما يضيفون أيضًا أفلاما رائعة أخرى لم تحقق فى البداية شيئا فى شباك التذاكر مثل (شىء من الخوف) حسين كمال، و(بين السماء والأرض) صلاح أبو سيف، حيث صارت هذه الأفلام وعدد قليل آخر هى الأهم فى ذاكرة السينما، ويتابعها الملايين فى كل القنوات الفضائية، وحققت أيضًا الملايين لمنتجيها.. هذه الأفلام تنطوى على قيمة فكرية وإبداعية تزيدها الأيام حضورا ورسوخا، كان رهانها على السينما المغايرة بمختلف مفرداتها، ولهذا لم يتماهَ معها الجمهور، فى البداية، لأنه لم يستطع أن يفك شفرتها بسهولة ولأننا كلنا- لا أستثنى حتى المتخصصين أو النقاد- نفضل التعامل مع العمل الفنى الذى ألفناه وتعودناه، يرتاح البعض لمن يقدم النغمة الدرامية السائدة، التى تجعل الذهاب لمشاهدة الفيلم أقرب إلى رحلة استجمام وليست مخاطرة استكشافية، العمل الفنى الذى يخرج عن الطابور يجب أن يحمل وميضًا خاصًا يجذبك إليه، هذا الوهج الخاص، يدفعك لكى تشاهده مرة أخرى، وكأن المتفرج يقدم لصناعه اعتذارا ولو بأثر رجعى.
بينما تلك الأفلام التى خاصمها الجمهور مؤخرا كانت تسبح سينمائيًا فى نفس المياه الراكدة التى تعودها الناس فى السرد الفنى، وبلا أى لمحة تشى بجاذبية، كررت المقرر السينمائى بحذافيره، ولا أتصور أن جمهور الزمن القادم من الممكن أن يجد فى تلك الأعمال التى رفضها آباؤه، ومع سبق الإصرار، ما يستحق أن يقدم عنه اعتذارا، بل سيخرج لها لسانه مجددا قائلا: (أبويا كان عنده ألف حق)!!.