بقلم - طارق الشناوي
من أكثر المظاليم فى حياتنا الإبداعية الكاتب الدرامى والشاعر والزجال الكبير بديع خيري، كان بديع هو البنية التحتية لعملاقين ودّعناهما قبل أن ينتهى النصف الأول من القرن العشرين: سيد درويش 1923 ونجيب الريحانى 1949.
درويش هو روح مصر الموسيقية، والريحانى هو ضحكة مصر الصافية، كل منهما ستكتشف أن القسط الأكبر من رصيدهما شارك فيه بالنصيب الأكبر بديع خيرى، كاتبًا غنائيًا مع درويش، ودراميًا مع الريحانى.
احتفظت الذاكرة المرئية لبديع بحوار ممتع مع الإعلامية سلوى حجازى فى بدايات التليفزيون المصرى، كما أنه شارك نجيب الريحانى التمثيل مرة واحدة فى فيلم (ياقوت) أول فيلم ناطق لعب بطولته الريحانى، ولا يعرض إلا نادرًا.
بين بديع ونجيب موقفان كان يقترب منهما بقدر كبير من الاحتراز: الأول أنه كتب من الباطن، وهو ما يعرف بـ(كاتب الظل)، أى يتقاضى أجرا ولكن العمل الفنى ينسب لآخر، كان بديع كاتبًا ناشئًا، ولهذا لم يجرؤ على أن يتقدم بأعماله مباشرة للريحانى، بعد أن أصبح الريحانى يبحث عن مؤلف بعد خلافه مع أمين صدقى كاتبه الملاكى، بسبب مطالبة صدقى بزيادة أجره، فهو يرى نفسه شريكًا فى النجاح، بينما الريحانى رفض الإذعان، فكان ينبغى البحث عن كاتب جديد، وتقدم له فعلًا أحد الممثلين فى المسرح برواية - كما كانوا يطلقون فى ذلك الزمن على النص المسرحى - وأعجبته، فتعاقد عليها وتكرر الأمر أكثر من مرة، حتى همس أحدهم فى أذن الريحانى باسم بديع الكاتب الحقيقى، فاتفق مباشرة الريحانى مع بديع.. لم يعد بديع يذكر أنه كتب من الباطن لأنها صارت حيلة مستهجنة، بينما فى الماضى وقبل إقرار حقوق الملكية الفكرية لم يجد حرجًا فى ذكر أنه كتب من الباطن.
لدينا واقعة أخرى ذكرها بديع فى مذكراته، بينما صار الأصدقاء والورثة يتعمدون تغييرها، وهى كيف تغلب بديع على خجله عندما التقى الريحانى لأول مرة!، الواقعة كما ذكرها فى مذكراته أنه ذهب إلى خمارة فى شارع (عماد الدين) بالقرب من مسرح الريحانى، واحتسى كأسا أو اثنتين حتى يمتلك الشجاعة اللازمة.. ومع تراجع المجتمع فى التسامح مع مثل هذه الأمور، صار البعض يكتب الواقعة على النحو التالى أنه ذهب للجامع وصلى ركعتين داعيًا الله أن يقويه ويمنحه الشجاعة.
من غيّر الكأس إلى الصلاة؟.. أعتقد أن هذا سوف يرضى بديع لو كان على قيد الحياة، وهى تفصيلة صغيرة كما ترى ولكنها تكشف كيف أصبحنا نتحسس ونتحسب لكل تفصيلة. كثير من الحقائق نطمسها خوفا من سوء التفسير، البعض من الممكن مثلًا أن يضع علامة إكس حمراء على عبقرية بديع خيرى لمجرد أنه اقترب من الخمر، ومهما كانت الملابسات فلن يغفرها له. هل نعيد كتابة التاريخ مجددا وفقا لما صارت تفرضه الرؤية الاجتماعية التى نعيش الآن تحت سطوتها؟.. صِرنا نحكم على الآخرين بمقياس دينى مباشر، ينجح أولًا فى اختبار القدرات الدينية، وبعدها لا شىء يهم. تقبّل المجتمع فى الماضى أن يصف الكاتب الكبير محمد التابعى، المطربة الملائكية أسمهان، بأنها «لا تطيق أن ترى الكأس وهى مليئة ولا تطيق أن تراها وهى فارغة»، ولم ينل هذا الوصف أبدا من قيمة أسمهان فى تاريخنا الغنائى. هل يجب ونحن نسرد التاريخ أن نضع كل الحكايات فى إطار دينى صارم، وإلا صارت الشخصية التى نتناولها خارج التاريخ؟!!.