بقلم - طارق الشناوي
كل شيء في حياتنا يبدو أنه يرتدي الكمامة، وبدلاً من قطرات العطور يسكب المطهرات، استبدلنا السلام الذي كان بالقبلات والأحضان، صار خلال الأشهر الأخيرة بضربات متلاحقة بقبضة اليد أو ركلات ببطن الحذاء، وكلما تعددت الضربات والركلات بات الأمر معبراً أكثر عن زيادة مساحات الحب!
إلا أنه من المستحيل أن ينسى الإنسان الرهان على الحياة، كما كانت قبل الجائحة، وبكل طقوسها، مع الأخذ في الحسبان أن لدينا عدواً يقف على الباب متربصاً بنا. في أوروبا مثلاً نجد أنهم يميلون أكثر لتأجيل المهرجانات أو إلغائها أو إقامتها افتراضياً، مثلما حدث مؤخراً مع مهرجان (برلين) في دورته رقم (71)، بينما مهرجان (قرطاج) قرر مديره المخرج الكبير رضا الباهي، وهو واحد من أهم علامات السينما التونسية، إقامة تلك الدورة التي تحمل رقم (31) واقعياً. لا أميل إلى استخدام نقيضي الجرأة والخوف، ونحن نتعامل مع فيروس فتاك مثل (كورونا)، يعرف هدفه جيداً ويبدأ غزواته من الحنجرة ليحتل الرئتين، مؤكد أن النسبة الغالبة من البشر - تتجاوز 95 من المائة - تستطيع أن تقهره في بداية مرحلة الغزو، إلا أن البشرية لا يمكن أن تتهاون في التعامل مع فيروس يمتلك كل هذه الخطورة.
علينا بقدر ما نسعى لكي نعيش الحياة بكل طقوسها وكما تعودنا، فإنَّنا على الجانب الآخر يجب أن نزيد من معدلات الاحتراز. المهرجان السينمائي لا يستحق وصفه بكلمة مهرجان لو لم نجد جمهوراً ضخماً، وتلك البيئة تحديداً التي تسمح بهذا العدد الضخم من الحضور، هي المرتع الأول للفيروس، التوازن مطلوب بين زيادة العدد، وتنفيذ الضوابط، فلا ننسى في كل لحظة أن هناك من يعد العدة، ويسن السكين، لكي ينفذ إلينا من أي نقطة ضعف تفلت منا. مهرجان (قرطاج) على عكس مهرجاني (القاهرة) و(الجونة)، لم يراهن على عرض الجديد، لم يكن هذا الأمر بالنسبة له يشكل أي طموح لهذه الدورة، كان المطلوب مساحة لالتقاط الأنفاس لنعيش مع الماضي بكل تنويعاته.
الماضى الذي يحظى في الأدبيات العربية بتوصيف الجميل، لم يكن جميلاً كله ولا حتى نصفه، إلا أن الأفلام التي فازت بجائزة قرطاج (التانيت الذهبي) كانت قطعاً كلها جميلة.
قرطاج قرر أن يعتبرها بمثابة فرصة لالتقاط الأنفاس، وهكذا كانت لدى المخرج رضا الباهي خطة أخرى في البداية لتلك الدورة الاستثنائية، تراهن على الجديد السينمائي عربياً وأفريقياً، بدأ هو وفريق العمل في إجراء اتصالاته، إلا أنه في اللحظات الأخيرة تم اعتماد سيناريو آخر مغاير لكل ذلك، وهو (الاستعادة)، التي تعني أيضاً أن نعيد قراءة ما عرفناه، مؤكد بعد مرور أكثر من نصف قرن على المهرجان، باتت القراءة الثانية للأفلام الفائزة بالجوائز تشكل ضرورة، ولهذا جاء المهرجان لإنعاش ذاكرة عشاق السينما بتلك الأفلام، التي كادت مع الزمن، أن يسقط جزء كبير منها في بئر النسيان السحيق.
الكل ينتظر بشغف ما هو مقبل، الرهان على عودة الحياة الطبيعية هو الهدف المنشود، وعلينا أن نثق أننا على الطريق، إلا أننا في الوقت نفسه ندرك أن الاحتراز كان وسيظل هو الوصفة السحرية للوصول إلى شاطئ النجاة، نعيش الفرح بإقامة المهرجانات الواقعية، فهي الرقصة التي ينبغي ألا نتقاعس جميعاً عن أدائها!