بقلم - يوسف الديني
«هذا الوقت سيمضي»... يبدو أن عالمنا اليوم الذي اعتدنا وصفه بـ«القرية الكونية» ضمن تعبيرات الاغتباط بالعولمة وتداعياتها، يقتبس هذه العبارة من الحكايا الشعبية السائرة، وهو يحاول فتح صفحة جديدة للعام الجديد في بداية انطباعية وتحقيب تفاؤلي يستجدي الزمن.
الجملة في أصلها تروى في الموروث الشعبي السائر وأصلها في الثقافة الهندية عن ملك أراد نقشاً على خاتمه بجملة تمنح ما يعبر عنه المتصوفة بـ«الضدين»، الفرح والحزن في آن، حسب وضعية القارئ النفسية، لكنها اليوم تعكس حالة الرغبة الملحة لتجاوز تحديات جائحة «كورونا»، هذه الرغبة الكونية هي مما تبقى من المتفق عليه لدى قاطني الأرض دولاً وشعوباً وكيانات وأفراداً، الجميع يترقب لحظة جديدة، وإن كان الجميع على يقين أن عالماً جديداً تشكل بمعطيات وملامح وتحديات غير التي ألفها.
وبعيداً عن الشأن اليومي والأحداث العابرة اللحظية، تحاول مراكز الأبحاث والدراسات وخزانات التفكير اجتراح سياقها الخاص في تأمل العالم مع بداية العام الجديد الذي يحمل على كاهله عبء التفاؤل والتجاوز بحمولات رمزية وسياسية واقتصادية كبرى من ألوان البهجة في خطوط الموضة، التي اختارت الألوان البهيجة والمشعة الصفراء والبرتقالية وصولاً إلى تدفقات مرتقبة في عالم الأعمال والسينما مما تأجل في حقبة «كورونا»، وصولاً إلى ظواهر كونية غير مسبوقة كولادة قمر الدم، وإسطرلاب فلكي ضخم لأول مرة، إلا أن الأهم من هذه الأحداث الخطوط العريضة لشكل العالم الجديد الذي من المفترض أنه تعلم من درس الجائحة، وتيقن بتوديع ما اعتاده مما اصطلح عليه «New Normal»، حسب ما تقرره الأبحاث الاستشرافية للعالم الجديد ضمن دراسات علوم المستقبليات (Futurology) التي تختص ببحث الممكنات والاحتمالات القادمة من خلال رصد مؤشرات مهمة جداً على مستوى ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية وديموغرافية.
المهم في عالم فوضى المحتوى اليوم، خصوصاً مع التحيزات السياسية، والاستقطاب العالمي، وتراجع العديد من مؤسسات الدول، بما فيها دول كبرى، بسبب فشل التعاطي الأمثل مع الجائحة، وصعود تجارب ناجحة وواعدة كالتجربة السعودية رغم التحديات بسبب تقديم أولويات الاستقرار ومركزية مؤسسات الدولة ومشاريع الرقمنة ومرافقة ذلك مع تحديات ما قبل الجائحة التي استدعت «رؤية 2030»، كل ذلك يجب أن تتم قراءته بناء على معطيات الواقع وأرقامه وليس انحيازات الآيديولوجيا والصور النمطية للبناء على المسلمات والافتراضات المتفق عليها من مختلف اتجاهات البحث العلمي والفكري والعقائدي والتكنولوجي.
صحيح أن خيط السياسة الرفيع لا يشكل في نسيج مفهوم الدولة والنظام والسلطة والتماسك المجتمعي النسبة الكبرى، إلا أنه الأكثر اهتماماً في التداول والقراءة الإعلامية، رغم صعوبات بنائه على قواعد البيانات والإحصاءات والأنماط السائدة، خصوصاً في عالم اليوم المليء بالتحيزات المسبقة، بالأخص في عالمنا العربي الذي لا يزال مفتقراً إلى مراكز أبحاث نوعية وميدانية لا ترتهن إلى تيارات التحليل الانطباعي غير المبني على الأرقام والدراسات الميدانية والإحصاءات، وصرامة البحث العلمي التي تراجعت أيضاً في نظيراتها في العالم الغربي، ورأينا الإخفاقات الكبرى منذ صعود الشعبوية وحقبة ما بعد أوباما وحتى عودة بايدن وما بينهما من فوارق ضخمة على مستوى الواقع والافتراضات الانطباعية لمراكز الدراسات.
جائحة «كورونا» بقدر ما كشفت عن هشاشة العديد من الأنماط السائدة في التعاطي مع الملفات الكبرى، إلا أنها اليوم، والعالم يحاول التعافي والاستعداد لتحديات، بدأت بمعركة اللقاح ولن تنتهي مع ملفات الاقتصاد السياسي الذي سيهيمن على باقي التفاصيل وسيكون الأكثر تأثيراً فيما يخص تحولات النظم الاجتماعية وقضايا تعقيدات التعددية والسلم الأهلي ومفهوم الدولة والاستقرار والسيادة.
تحديات العالم وتوتراته في آن واحد ما بعد الجائحة محركها الأول الاقتصادات الكبرى في دول العشرين، وقدرتها على التناغم في الدفع بباقي دول العالم نحو التعافي من دون التأثير على نجاحاتها الذاتية واقتصاداتها الخاصة، وإذا ما أردنا تكثيف هذا العنوان الكبير في مثال حي يمكن قراءة الخطوط العريضة للوثيقة الاقتصادية للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، فهو رغم كونه مشروعاً للانكفاء الذاتي حتى ما قبل «كورونا»، إلا أن محاولات تعديله وتشذيبه، وضمان نجاحه، خصوصاً مع تحولات الإدارة الأميركية، تعطي صورة مصغرة لثنائيات كبرى في عالم الاقتصاد السياسي ومنطق الدولة والسيادة خارج «البريكست» وعلاقة التعافي والاضطرابات الاجتماعية وهشاشة مؤسسات الدولة بوضعية الاقتصاد، خصوصاً مع صعود نموذج الصين ومحاولات استنساخه في أوروبا الشرقية كردة فعل على الاستياء من قيود الاتحاد الأوروبي في ظل تأثيرات صعود الشعبوية عليه أيضاً.
المسألة في الشرق الأوسط ودول المنطقة أكثر تعقيداً، خصوصاً مع وجود مشاريع تقويض مفهوم الدولة واستقرارها ومؤسساتها، لذلك تحدي دول الاعتدال، في مقدمتها السعودية، المزيد من الحفاظ على فضيلة الاستقرار والاستثمار في استراتيجياتها نحو إنعاش الاقتصاد ودعم رؤيتها المستقبلية، بهدف دعم ثقة الأسواق العالمية والحوكمة وتحولاتها التي لن تكون متأثرة بشكل كبير بالأقواس السابقة والمؤسسات الدولية والنظام العالمي الذي يعيش إعادة تشكل بدت واضحة مع منظمة الصحة، وفي مواقف الدول المتباينة من النزاعات الكبرى ومشاريع الهيمنة التي تقودها دول رعاية الفوضى.
على مستوى المسؤولية الجماعية للدول، كانت لحظة قمة مجموعة العشرين في الرياض بداية انطلاقة إيجابية لطبيعة العالم الجديد، وتطرح العديد من الرؤى العالمية الاستشرافية احتمالية ولادة كيانات مشابهة كبنوك التنمية المتعددة الأطراف في مقابل البنك الدولي ومنظمة التجارة، وبعيداً عن عامل الوقت، فالأكيد أن أولويات دول العالم في 2021 هي النجاحات الداخلية ومرحلة التعافي المحلي والاستقرار والحفاظ على السيادة... هذا الاستثمار في الداخل لا يعني الجنوح إلى أحادية الدولة بقدر أنه سيقوي تماسكها وتعايشها مع النظام العالمي عبر خطط الاستدامة والاكتفاء الذاتي بعيداً عن الشعارات التي سيكون لها نصيب الأسد في الممانعة والتدافع بين نموذج صيني صاعد اقتصادياً ونموذج أوروبي متعثر يحاول تحجيمه عبر خطاب القيم والحقوق والمناخ والتعددية، وهو ما سينتج نظاماً عالمياً هجيناً بين مركزية الدولة وسيادتها وقيم السوق وضغوطات التعافي الاقتصادي، وبينهما طريقة تشكل وتفاعل المجتمعات وكتلها الفاعلة مع اشتراطات البقاء في عالم ما بعد الجائحة، الذي ربما احتاج لأن يمضي الوقت لتتشكل ملامحه رغم وجود كل المؤشرات على أهم تحولاته.