بقلم - عثمان ميرغني
من الغريب والمؤسف أن تنزلق إثيوبيا مرة أخرى نحو متاهات حرب أهلية ستكون لها أبعادها المدمرة داخليا وامتداداتها الخارجية. فإثيوبيا يفترض أن تكون مدركة لمعنى الحروب لأنها اكتوت بنيرانها وذاقت مراراتها عقودا طويلة. كما أن رئيس الوزراء آبي أحمد يفترض أن يفهم معنى السلام لأنه في وقت ليس ببعيد كان وسيطا بين السودانيين لتجاوز الخلافات وتهيئة ترتيبات الفترة الانتقالية الراهنة، ولأنه أيضا منح جائزة السلام من لجنة نوبل العام الماضي بعد طي ملف النزاع مع أريتريا. لكن المفارقة المريرة أن آبي أحمد يقود الآن بلاده إلى حرب أهلية، ويرفض الوساطات لحل الأزمة التي يمكن أن تجر بلاده والمنطقة إلى حرب مكلفة.
صحيفة «الغارديان» البريطانية تساءلت في عنوان قصة نشرتها منتصف الأسبوع الحالي ما إذا كانت الحرب في إقليم التيغراي ستحول إثيوبيا إلى «ليبيا شرق أفريقيا». مثل هذا الاحتمال يبقى واردا إذا طال أمد النزاع في منطقة فيها تعقيدات كثيرة في عدد من دولها، وتقاطعات مصالح إقليمية ودولية متنافسة. فرغم تصريحات آبي أحمد بأن المعارك ستحسم خلال أيام وأن القوات الإثيوبية تتقدم نحو مكيلي عاصمة إقليم التيغراي، فإن هذا لا يعني نهاية هذه الحرب، التي يرى كثيرون أنها يمكن أن تطول وتتعقد.
ما الذي قاد إثيوبيا إلى هذا الوضع المتفجر؟
الحروب تقع بسبب فشل السياسيين أو طموحاتهم في السلطة وبسط النفوذ، أو نتيجة الفشل في التعايش بين المكونات الإثنية للبلد. وما يحدث الآن في إثيوبيا نموذج صارخ لكل ذلك. فهذه الحرب هي بين حلفاء الأمس الذين فرقت بينهم صراعات السياسة، وعجزوا عن كبحها وحلها منعا لكارثة رآها كثيرون قادمة وحذروا منها إذا لم تتلافاها أطراف التحالف الذي حكم إثيوبيا منذ إسقاطه نظام منغستو هيلا مريام عام 1991 بدعم قوي ومباشر من الحكومة السودانية آنذاك عندما كانت علاقاتها تتسم بالتوتر الشديد مع جارتها الشرقية ويدعم كل طرف معارضي الطرف الآخر. جبهة تحرير شعب التيغراي كانت تتمتع بحصة كبيرة في السلطة وتمسك بمفاصل الدولة خلال العقود الثلاثة الماضية، مهيمنة بذلك على الجبهة الثورية الديمقراطية لشعب إثيوبيا التي كانت تضمها مع ثلاث حركات أخرى تمثل القوميات الرئيسية وهي «حركة الأمهرا الوطنية الديمقراطية»، و«منظمة شعب الأورومو الديمقراطية»، و«الحركة الديمقراطية لشعوب وقوميات جنوب إثيوبيا». لكن بعد تسلم آبي أحمد، وهو من قومية الأورومو، رئاسة الوزراء في عام 2018 بدأت الأمور تتوتر مع جبهة تحرير شعب التيغراي. كانت للرجل طموحات كبيرة ورؤية مختلفة وضعته على خط المواجهة مع جبهة التيغراي التي عارضت أيضا تقاربه واتفاقيته مع إريتريا.
قام آبي أحمد بعملية واسعة لقصقصة أجنحة جبهة تحرير التيغراي، فعزل عددا من مسؤوليها السياسيين والعسكريين والأمنيين من مناصبهم في الحكومة الفيدرالية، لتواصل العلاقات بين الطرفين السير في خط متحدر. وعندما قرر آبي أحمد إنشاء حزب جديد باسم «الرخاء» أو «الازدهار» كما يترجمه البعض، ليحل محل الجبهة الثورية الديمقراطية لشعب إثيوبيا رفضت جبهة التيغراي الانضمام واعتبرت الأمر محاولة من رئيس الوزراء للهيمنة وإضعاف حلفائه وسلطات الأقاليم لصالح المركز. التوتر بلغ أشده عندما قررت الحكومة الإثيوبية تأجيل الانتخابات المقررة الصيف الماضي وعزت الأمر إلى جائحة كورونا، لكن حكومة إقليم التيغراي رفضت الأمر وأجرت انتخاباتها في الإقليم متحدية آبي أحمد الذي اعتبرها غير شرعية.
وصلت الأمور لنقطة الاشتعال بداية نوفمبر (تشرين الثاني) بعدما اتهمت الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا جبهة تحرير شعب التيغراي بمهاجمة معسكرين للجيش الفيدرالي الإثيوبي في الإقليم وقتل عدد من الجنود والاستيلاء على المعدات العسكرية بما فيها كمية كبيرة من الأسلحة الثقيلة. كذلك اتهم آبي أحمد جبهة تحرير التيغراي بمحاولة خلق فتنة بين إثيوبيا وإريتريا بارتداء جنودها الذين هاجموا قاعدة الجيش الإثيوبي بزات عسكرية إريترية، وهو ما نفته الجبهة. بعدها خرج آبي أحمد ليعلن عبر صفحته في «فيسبوك» ثم في بيان عبر التلفزيون بدء عمليات عسكرية ضد حكومة إقليم التيغراي واتهمها بالخيانة متوعدا بإنهاء ما وصفه بالتمرد وجلب المسؤولين للمحاكمة، وهو ما رد عليه رئيس الإقليم دبريتسيون غبرامكائيل بالقول «إننا جاهزون لا للمقاومة فقط، بل للانتصار».
مشكلة حكومة التيغراي تكمن في موقع الإقليم المحاط من الجنوب بالأمهرا ومن الشرق بعفار ومن الشمال بإريتريا ومنفذه الوحيد عبر حدوده الشرقية مع السودان الذي تدفق عليه الهاربون من الحرب حتى بلغ عدد اللاجئين وفق تقديرات المنظمات الدولية حتى أمس أكثر من 25 ألفا. لكن طبيعة الإقليم الجبلية تناسب أيضا حرب العصابات التي ستلجأ إليها حتما جبهة تحرير شعب التيغراي إذا خسرت مواقعها في المدن الكبرى أمام قوات الجيش الإثيوبي المتقدمة. فقادة الجبهة لن يقبلوا الاستسلام لآبي أحمد ما يجعل احتمال أن تطول الحرب مرجحاً ما لم تجد الوساطات فرصة لتهدئة النزاع وحل الأزمة بين الطرفين. وإذا طالت الحرب فإن تداعياتها لن تبقى داخل حدود إثيوبيا بل ستمتد لتهدد الاستقرار الهش في المنطقة.
السودان أكبر المتضررين ليس فقط بسبب الضغوط الإنسانية والاقتصادية والأمنية مع تدفق اللاجئين الهاربين من الحرب، وإنما لأن حدوده قد تصبح منفذا يستخدمه مقاتلو جبهة تحرير التيغراي لتهريب السلاح والإمدادات مستفيدين من معرفتهم الطويلة بالمنطقة. أضف إلى ذلك أن وجود أعداد كبيرة من اللاجئين قد يثير مشاكل مع المزارعين السودانيين والأهالي في المنطقة التي كثيرا ما شهدت دخول عصابات إثيوبية مسلحة وسيطرتها على أراض زراعية، علما بأن هناك مشكلة حدودية كامنة بسبب الأراضي السودانية التي احتلتها إثيوبيا في الفشقة. فآخر ما يريده السودان الآن هو زيادة التوترات في مناطقه الشرقية التي تشهد صراعا داخليا تتهم عدة جهات إريتريا بتأجيجه طمعا في ضم أراض سودانية.
إريتريا أيضا قد تمتد إليها الحرب للعداء بينها وبين جبهة تحرير شعب التيغراي التي ترى أن هناك تنسيقا ضدها في هذه الحرب بين آبي آحمد والرئيس الإريتري آسياس أفورقي. وقد شنت جبهة التيغراي بالفعل هجوما بالصواريخ نحو أسمرة، وهناك تقارير تتحدث عن قصف مدفعي عبر الحدود. إريتريا ستحاول ألا تدخل في عمليات عسكرية مباشرة رغم أنها تدعم آبي أحمد، وهذا قد يكون متاحا لو انتهت الحرب سريعا، لكنها إذا طالت فلن تستطيع أن تنأى بنفسها بكل ما قد يعنيه ذلك من تعقيدات عليها، وهي غير محصنة من المشاكل الداخلية ولأفورقي أيضا أعداء.
مصر أيضا ليست بعيدة عن المشهد في ظل أزمة سد النهضة وقضية المياه التي تعتبرها مسألة حياة أو موت. فما يحدث في إثيوبيا اليوم أو غدا سيكون له صداه في القاهرة التي قد تكون أكثر من مجرد مراقب يكتفي بالمتابعة عن بعد. ورغم أن القاهرة سعت لإخماد الضجة التي أثارها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عندما قال في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إنها قد تهاجم سد النهضة وتفجره، معلنة أنها تفضل خيار الحل التفاوضي، فإن الكلام ذكّر الناس بأن مصر مستعدة للذهاب إلى أقصى حد في هذا الملف. لذلك لن يكون غريبا ولا مستبعدا أنها تدرس الآن كل الاحتمالات والخيارات مع تطورات حرب التيغراي.
هناك بعد آخر في حرب إثيوبيا إذا طالت وأدت إلى تفجر الأوضاع الداخلية بشكل واسع في ظل التوترات الكامنة بين القوميات والمشاكل المتراكمة. فحركات «الدواعش» المتطرفة ليست بعيدة عن إثيوبيا بوجودها في الصومال وبنشاطها الذي توسع مؤخرا بشن عمليات في تنزانيا، وإذا ما رأت فرصة جديدة فإنها لن تتوانى عن استغلالها، بما سيضيف المخاطر والتداعيات على المنطقة.
هل من الغريب بعد كل هذا أن تتساءل «الغارديان» البريطانية ما إذا كانت هذه الحرب ستحول إثيوبيا إلى «ليبيا شرق أفريقيا»؟