بقلم - محمد الرميحي
قدر محمد بن سلمان أنْ يأتيَ في هذا الوقت الصعب، وأن يحملَ رؤية والده الملك سلمان، الذي راكم خبرة طويلة في مراقبة التطور في مجتمعه وخارجه، وقرر أن يجدّد شباب المشروع التحديثي ويقوده ولي العهد، حيث يقدم رؤية سابقة للعصر، ولكنها في الوقت نفسه تتطابق مع تفضيلات معظم المواطنين؛ لهذا السبب فإنَّ معارضة مشروع التحديث في المملكة العربية السعودية يأتي من أطراف وقوى مختلفة، بعضها ظاهر وآخر مختفٍ خلف شعارات رنانة لغواية العامة.
المشروع بتفاصيله جديد على معظم الناس، ولكنه في الوقت نفسه لمن يقرأ تطور الشعوب مستحق. السعودية بلاد كبيرة والتجمعات السكانية فيها متباعدة، وفي الوقت نفسه لديها موارد ضخمة تحت الأرض وفوق الأرض، في السواحل والجبال، متعددة الثقافات الفرعية، ولها في الدين الإسلامي مكانة، ولدى العرب منعة، وفي العالم موقع وموقف. بصفتها هذه تتحمل الكثير من الأعباء، أعباء داخلية وأخرى خارجية؛ لذلك فهي هدف التصويب في الإعلام الدولي.
القوى الخارجية معادية ليس للمشروع التحديثي فقط، ولكن للدور الذي تلعبه المملكة في الإقليم والجوار والعالم، دور بناء النموذج المخالف لما هو سائد في الساحة الشرق أوسطية. المشروع برمته مكان للتحدي، ومحمد بن سلمان، من متابعة جملة تصريحاته يعرف، وعلى دراية بذلك التحدي، ويواجه بوضوح شديد من دون لبس أو تسويف؛ فمعرفة من تقابل هي ربح نصف المعركة. المشهد أمامنا مليء بالتحديات، ليس للمشروع التحديثي في المملكة فقط، وإنما لما يمثله من تحدٍ لصياغة قاعدة صلبة للمشروع العربي المراد انطلاقاً من المملكة، وهو الدخول وباقتدار إلى سياق حضاري تاقَ له العرب ولم يعد في بداية القرن الحادي والعشرين متسعٌ من الوقت للتسكع أمام التاريخ، بل الفعل والتأثير. ليس سراً اليوم معرفة مصفوفة المشروعات الكبرى الضخمة في البنية التحتية التي تنشأ في المملكة؛ فهي موجودة أمام من يرغب في الرؤية الصافية وغير المنحازة، وليس سراً أن جامعات المملكة تنتج معرفة نسبية تتفوق على من سبقها في الزمن من الجامعات في الجوار الإقليمي، كما أنَّه ليس سراً أن المجتمع في المملكة مجتمع شاب، له من المطالب ما هو مختلف عن جيله السابق، تأتي الانتقادات من البعض في صيغ مختلفة، بعضها كما الناصح، وآخر يفتش عن المثالب، أما بعضها الآخر فيعمد إلى التضليل والتهويل والخداع، بعضهم يقول إن «مشروع التحديث مستعجل»، وآخرون يتحدثون عن إمكانية حدوث خلل في الهياكل الاجتماعية، وفرقة ترى في تحديث المجتمع السعودي خطراً عليها مباشراً أو غير مباشر، أو على مشروعها، وترغب في أن تستمر بلعب دور «آباء» للتعليم والثقافة، وربما حتى الاقتصاد.
المقدور عليه والسريع هو إنشاء المشاريع الكبيرة، ولكن الأصعب هو وضع معايير ثابتة في المجتمع وبناء المؤسسات من أجل تمكين البنية التحتية الإنسانية للمساهمة المستدامة والإيجابية في المشروع التحديثي وحمايته؛ لذلك فإنَّ الإصلاحات المقترحة في الشأنين القضائي والعدلي من جهة، والتعليمي من جهة أخرى في المرحلة الأخيرة، هي ركيزة أساسية من ركائز التحديث المرجو، وقد أعلن عن خطوطها الإصلاحية في الأسابيع القليلة الماضية، ويتم إكمالها نظاماً. التحدي الثاني الذي يقف محمد بن سلمان، صلباً أمامه هو «الفساد»؛ فالثابت أن كل «ريال فساد» يهرب من أمامه «خمسة ريالات صحيحة»، وهو ملف سهل الحديث عنه صعب التنفيذ في بيئة بيروقراطية بنيت لعصر مختلف، وفي ثقافة لدى البعض لا تفرق بين المال العام والمال الخاص. لقد اختفى موضوع الفساد في المملكة من العناوين الرئيسية في الإعلام المحلي، ولكنه بقي في العناوين الفرعية يعلن عن سقوط بعض ضعاف النفوس. اختفى من العناوين الرئيسية لأنَّه أصبح معطى اجتماعياً يسقط رؤوساً حتى في أجهزة حساسة، ومن يتابع الإعلام المكتوب يمكنه رصد ذلك.
عملية محاربة الفساد أو تخفيض وتيرته عملية تحتاج إلى إعادة تثقيف جذرية ترفدها قوانين رادعة ومؤسسية فاعلة. في المقابل، هناك شريحة واسعة من المواطنين السعوديين مرحبون ببرامج التحديث الاجتماعي والاقتصادي ومناصرون لها.
هناك من هم يسعون للتعطيل عن طريق خلق جو من خلخلة الثقة وترويج الشائعات، وتساعدهم في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، والتحدي، كما يبدو، كيف يمكن تنظيم وجمع جهود المناصرين للمشروع من كل القطاعات والمشارب وعلى اختلاف الجندر (نساء ورجالاً) في الأغلبية المؤيدة من أجل تعضيد مشروع التحديث عملاً وليس قولاً.
هنا تلعب الثقافة دوراً مهماً وفاعلاً في تطوير المواقف وتسويق السياسات من خلال فهمها والدفاع عنها من طريق تكوين طليعة في الجامعات والمدارس والإعلام، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي. المنظور الآخر، أن يفكر في إنشاء أكثر من «مجمع علمي» لكل من العلوم البحتة والتطبيقية، وأيضاً العلوم الاجتماعية، هذه المجمعات تضخ إليها أفضل العقول وترفد بالميزانيات وتعكف على دراسة المتغيرات، ووضع الحلول وتشجيع الابتكار في كل المجالات الحياتية، العلمية والاجتماعية؛ مما يخلق قاعدة علمية يستند إليها مؤسسياً مشروع التحديث. فضعف الإنتاج العلمي هو الذي أصاب الكثير من مشروعات التحديث في مقتل في مجتمعات ودول أخرى. العصر هو عصر العلم ولا طريق غيره سبيلاً إلى التحديث. في يقيني وربما شاركني البعض، أن قاعدة التحدي في منطقتنا هي «بناء النموذج البديل» لما هو سائد من الترويج لآيديولوجيات طريقاً إلى تطويع واستعباد المجتمعات، وأيضاً قيادتها إلى حروب مهلكة. هذا النموذج الذي توضع لبناته اليوم سوف يشاهد من الآخرين وتجري المقارنة به، ويعيد الثقة بالنخب القائدة في قدرتها على مواجهة الأزمات وتقديم الحلول طويلة المدى.
أخر الكلام:
الالتفات إلى أهمية العناية «بالهيئات الوسيطة لصناعة الرأي» بشكل مهني وعلمي هو طريق الانعتاق من الوقوع في حبائل التضليل والشعبوية الفوضوية، والتي تضرب بقسوة في كثير من مجتمعاتنا.