بقلم - عبد الرحمن شلقم
لم يغب الطموح الديمقراطي في الكثير من الدول الأفريقية، لكن ذلك الطموح لا يزال يواجه تحديات تتحرك في الاتجاه المنشود وأخرى في الاتجاه الآخر. عهد الاستعمار الأوروبي الذي جثم على القارة ردحاً طويلاً من الزمن ترك رواسب طالت الكثير من مفاصل التكوين الثقافي والسياسي بل والاجتماعي. القبيلة مكون له حضور لا يغيب ولا يضمر في أغلب بلدان القارة الأفريقية وله تأثير يمتد إلى كل التكوينات السياسية والاجتماعية. بعض البلدان شهدت محاولات ديمقراطية رائدة بعد حصولها على الاستقلال، ولكن الانقلابات العسكرية هزَّت العديد من دول القارة. لم تسلم بعض البلدان من حالات آيديولوجية رسمت ملامح سياستها وانعكس ذلك على مسار العمل السياسي بها. تجربتان في القارة شكلتا بدايات جادة في كل من السنغال وتنزانيا، مع أن لكل واحدة منها خصوصية تميزها عن الأخرى، مع وجود مشتركات بينهما في بعض الجوانب، وخاصة الاجتماعية والدينية. السنغال يدين غالبية سكانها بالإسلام وللطرق الصوفية حضور كبير ومؤثر. بعد الاستقلال ترأس البلاد رجل مسيحي كاثوليكي مثقف وشاعر ومفكر هو ليبولد سيدار سنغور. لم يُحدث ذلك أي حساسية أو معارضة عند الغالبية الإسلامية، ويرجع ذلك إلى معرفته الواسعة والعميقة بتكوين الشخصية السنغالية. تعامل مع رجال القبائل في الحياة الاجتماعية وتقرب إلى مشايخ الطرق الصوفية وخاصة التيجانية يزورهم ويلبي طلباتهم ويوقرهم في المناسبات العامة والخاصة. عمل على إعداد جيل من الشباب لتولي المسؤولية بعد أن أعطاهم الكثير من وقته لتثقيفهم وتدريبهم وأعطى مساحة واسعة لحرية التعبير بما لا يمس بثوابت المجتمع من تقاليد وموروث اجتماعي. بعد رحيله شهدت البلاد مرحلة حساسة ولكن جرى تجاوزها بسرعة لتبدأ البلاد عصراً من الديمقراطية ترسخت أسسها مع مرور السنوات. تداول على الرئاسة في البلاد شخصيات من المسلمين من دون إثارة حساسية الجماعة المسيحية، فقد ترسخت أسس الدولة والمساواة على قاعدة المواطنة، وبقى سنغور رمزاً وطنياً يجمع أبناء البلاد على الاعتزاز به وبما قدمه للوطن. كان سنغور قامة في الفكر والسياسة، فقد قرر التخلي طوعاً عن كرسي الرئاسة وسلمه لأحد تلامذته وهو عبدو ضيوف الذي رافقه طوال سنوات وجوده على هرم السلطة.
في تنزانيا كان هناك زعيم شارك سنغور في العديد من الصفات والقدرات وأبرزها الثقافة والدهاء السياسي هو جوليوس نيريري. لقد نجح في توحيد إقليمي زنجبار وتنجانيقا وأعطى الكيان الجديد اسم تنزانيا. البلاد الجديدة تضم شعباً به مسلمون ومسيحيون، وشهدت المرحلة التي سبقت التوحيد صراعاً دامياً بين الطرفين. نيريري سهر على إدماج المكونين في الوطن الموحد بالمساواة وإتاحة الفرص للجميع وتكريس مفهوم المواطنة وترسيخ الهوية الوطنية، واستن قاعدة في الحكم تقوم على تداول منصب الرئاسة بين المسلمين والمسيحيين وتحقيق التوازن في المناصب العامة. توافق الاثنان السنغالي سنغور والتنزاني نيريري على شيء لم يكن معتاداً في أفريقيا وهو التخلي عن السلطة طواعية وتسليمها لمن أعدّاهم لذلك. في هذين البلدين لم يجد العسكر فرصة للاستيلاء على السلطة وشق البلدان طريقهما نحو الديمقراطية في مسيرة سلمية هادئة ترسخت مع مرور السنوات. الفكر والوعي والقدرات الزعامية التي امتاز بها الرئيسان المؤسسان هي التي جعلت من هذين البلدين الأفريقيين نموذجاً فريداً وطليعياً بين الدول الأفريقية.
أغلب الدول الأفريقية ضربها مد الانقلابات العسكرية في مرحلة لم تكن قصيرة، وانعكس ذلك على كل نواحي الحياة واستفحل التخلف برؤوسه الثلاثة، الفقر والجهل والمرض رغم الموارد الهائلة التي تمتلكها تلك الدول من الخامات والأراضي الزراعية الخصبة والأنهار ومواسم الأمطار الغزيرة والأيدي العاملة والغابات والثروة الحيوانية المتنوعة. في مطلع تسعينات القرن الماضي بدأ الحلم الديمقراطي يجد له مكاناً تدريجياً في بعض دول القارة. في غانا ونيجيريا وإثيوبيا وليبيريا وجنوب أفريقيا وغيرها تحركت عجلة الديمقراطية وحققت تقدماً وبدأت تترسخ مدعومة بوعي الشعوب التي أرهقتها حقبة الانقلابات العسكرية وما جرته على الشعوب من قمع ومعاناة وعبث بمقدرات الأوطان. شهدت بعض البلدان في القارة حركات مسلحة من أجل إسقاط الأنظمة العسكرية مما كلف ذلك دماء وضحايا ودماراً للكثير من المقدرات مثل ما حدث في إثيوبيا لإسقاط نظام المقدم مانغستو هيلا مريام. وبرغم أن بعض الدول أصدرت دساتير تنص على تحديد ولاية الرئيس بمدتين فقط، إلا أن بعض الرؤساء قاموا بتعديلها من أجل أن يبقوا في الحكم مدة أطول من المنصوص عليها في الدستور، وهذه معركة أخرى لا تزال بعض الشعوب تخوضها سلمياً من أجل كبح نهم بعض الرؤساء الذي لا يضعف في البقاء على كرسي الحكم.
لا شك أن الإرهاب والتطرف في بعض الدول يربكان مسيرة الديمقراطية، وكذلك القلاقل الاجتماعية وهيمنة القبلية على النسيج الاجتماعي، تشكل كلها عوائق أمام تكريس العملية الديمقراطية، ولكن الرفض المتعاظم من طرف الشعوب للديكتاتورية وتأبيد السلطة لأي رئيس، ستجعل من الديمقراطية خياراً تلتف حوله قطاعات واسعة من الناس بعد أن كانت في مراحل مضت هي قضية لا يتعدى الاهتمام بها حلقة النخبة. تنقلت البلدان الأفريقية بين حلقات ساخنة، من الاستقلال والقضاء على التفرقة العنصرية إلى حلقة الانقلابات العسكرية ومنها إلى حلقة الديمقراطية، وهي محطة وصلت إليها بعض الشعوب بينما لا تزال أخرى تكافح لتحقيقها.