بقلم - نديم قطيش
يعاً جداً ستواجه إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن الحدود الضيقة لرؤيتها غير الواقعية حتى الآن للسؤال الإيراني. في مقابلته مع صحيفة «نيويورك تايمز»، أعطى بايدن إشارات مبكرة لهذا المآل، حين اعترف أن اقتراحه بعودة أميركا إلى الاتفاق النووي في مقابل عودة إيران إلى التزاماتها ومعالجة مخزون اليورانيوم الذي أنتجته منذ خروج ترمب من الاتفاق، سيكون صعباً جداً. ولئن أقر بايدن بالمخاطر الأخرى التي يشكلها النظام الإيراني كالصواريخ الباليستية، والصواريخ الدقيقة، وسياسات إيران المعززة في المنطقة، إلا أنه أصر أن المدخل إلى ضبط إيران هو الملف النووي.
هنا تكمن السياسة الأميركية غير الواقعية التي أحسن ترمب عدم النجاة من حبائلها.
أولاً: من غير المعروف على وجه الدقة مدى قرب أو بعد إيران عن إنتاج سلاح نووي. هذا تقدير لطالما خضع لكم من المبالغات والحسابات السياسية وافتراض الأسوأ من قبل خصوم إيران، كما أحيط بكم من التهويل من قبل إيران لاستدراج الولايات المتحدة إلى مفاوضات بهدف الوصول إلى اتفاقات تخفف عن النظام أعباء العقوبات. لا ينفي هذا التشكيك أن إيران عازمة على إنتاج سلاح نووي، وهو ما يمكن الاستدلال عليه مما كشفته وكالة الطاقة الذرية، وأجهزة المخابرات الدولية، من تصاميم نووية إيرانية وتطوير تقنيات وخبرات لا علاقة لها بالحاجات النووية السلمية التي تدعيها إيران. وقد كُشف قبل أيام أن بحوزة إسرائيل تسجيلات مبكرة للعالم النووي المقتول محسن فخري زاده، حصلت عليها من جاسوس للموساد مزروع على مقربة منه، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن فخري زاده تحدث بوضوح عن إنتاج رؤوس نووية.
ثانياً: إذا كانت إيران فعلاً على بعد أشهر من إنتاج القنبلة، كما يعتقد بايدن، فلماذا تعطي بين إشاراتها الكثيرة والمتناقضة، ما يكفي من الإشارات التي تقنع بايدن والأوروبيين بأنها تريد التفاوض والعودة إلى اتفاق يؤخر إمكانية حصولها على القنبلة؟! إيران تعرف أن القنبلة ضمانة مجنونة ضد أي إجراءات لتغيير النظام، فلماذا تغامر بعدم الحصول عليها، في مقابل ترتيبات قانونية هشة قابلة للتغيير بمجرد تغيير إدارة سياسية في أميركا، ما لم تكن فعلاً غير قادرة على إنتاجها، أقله في وقت مناسب يسبق الانهيار الشامل لاقتصادها بسبب العقوبات والسياسات الاقتصادية الفاشلة والفساد وتبعات «كوفيد - 19»؟
الحقيقة أن المخاطر التي يشكلها النظام الحاكم في إيران، ناتجة عن الأسلحة التقليدية والمتخلفة، أكثر من كونه ناتجاً عن صواريخ نووية، غير موجودة حتى الساعة بيد إيران. فالصواريخ أو المسيّرات التي يعتدي بها الحوثي على السعودية، وتستخدمها ميليشيات طهران في العراق، ويفاقم «حزب الله» تخزينها في لبنان بما يعطيه فائض قوة يستغلها في الهيمنة السياسية على هذا البلد الصغير والخطير، هي أسلحة غير نووية، وهي، لا السلاح النووي، عماد المشروع التوسعي التخريبي لإيران.
هذا العطل الرئيسي في فهم دور إيران السلبي حيال أمن المنطقة يغشي بصر إدارة بايدن، ويستدرج أميركا لتلعب لعبة طهران المفضلة، وهي التلويح بالنووي للتغطية على سياسات إيران الإقليمية وتأجيل البحث فيها أو تخفيض موقعها على سلم الأولويات بما يسمح لها بالمضي بها قدماً. هذا فعلاً ما حصل بعد الوصول إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1 في عام 2015.
إلى جانب إصراره على أولوية البند النووي كمدخل للتفاهم مع إيران، يقع بايدن في فخٍ ثانٍ ناتج عن تصور غير واقعي لحقيقة النظام الإيراني، ومفاده أن الخروج من الاتفاق خدم العناصر المتطرفة في طهران، وأن أي خرق قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية في يونيو (حزيران) 2021، قد يعين الإصلاحيين على الاحتفاظ برئاسة الجمهورية ويعزز الأمل بواقع سياسي مناسب للتفاوض والحل السلمي. الواقع أن قرار إيران التفاوض مع واشنطن لم ينتج عن تغيير النخبة السياسية الحاكمة في طهران، بقدر ما كان استجابة موضوعية للعقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وبقرار مباشر من المرشد علي خامنئي، أي العنصر الوحيد الثابت في معادلة القرار بالتفاوض أو عدم التفاوض بصرف النظر عن هوية الرئيس أو الحكومة.
«اللوبيينغ» العربي الإسرائيلي، يرتدي صفة استراتيجية لتبديد هذين الوهمين عبر التواصل المباشر مع إدارة بايدن، وتكثيف المنافحة ضدهما في مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الأميركية، بغية خلق رأي عام تخصصي يصحح من اندفاعة بايدن غير الواقعية، والاستفادة من واقع أن الإدارة الأميركية تواجه أربع حقائق مستجدة، على الملف النووي الإيراني لم تكن قائمة قبلاً.
1 - إن نقطة الانطلاق للتفاوض النووي تغيرت وباتت واشنطن، بلسان بايدن ومساعديه الرئيسيين، وأوروبا، لا سيما ألمانيا وفرنسا، تدرك أن أي اتفاق مع إيران لا بد أن يشمل: أ - البرنامج الصاروخي الباليستي والصواريخ الدقيقة.
ب - إطالة المهل التي تسمح لإيران باستخدام وتوظيف تقنيات وخبرات نووية، أبعد مما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي.
ج - وضع حد للأنشطة الإيرانية التخريبية في المنطقة عبر تجريم ممنهج للسياسات التوسعية الإيرانية وضرب أدواتها المباشرة على الأرض، كـ«حزب الله» والحوثي وميليشيات «الحشد الشعبي».
2 - لا تمتلك إدارة بايدن الكثير من فائض الوقت والجهد والرأسمال السياسي لتوظيفه في الملف النووي. فما بعد «كوفيد - 19» ليس كما قبله، على مستوى التحديات الصحية، وتحديات تحفيز الاقتصاد، وما يتطلبانه من حزم تشريعية كبيرة ومضنية، لا سيما في ظل انقسام سياسي كبير في واشنطن إذا ما استمر الجمهوريون بالإمساك بمجلس الشيوخ.
ما يعنيه ذلك أن الدول الخليجية وإسرائيل في موقع أفضل للضغط على واشنطن لعدم التسرع في القفز إلى حلول لا تأخذ مصالحهم بعين الاعتبار، لا سيما في فترة الأشهر الستة الممتدة بين تنصيب بايدن والانتخابات الرئاسية الإيرانية في يونيو المقبل.
3 - أياً يكن موقف الإدارة المقبلة من خيارات ترمب في الملف النووي الإيراني إلا أنها تعلم أن جزءاً كبيراً من العقوبات التي فرضتها الخزانة الأميركية في عهده، جاءت في خانة حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، مما يجعل من الصعب التراجع عنها بالبساطة التي تتصورها طهران، وهو ما سيعقد إمكانيات التفاهم من دون أن يكون التفاهم بأثمان معنوية عالية على نظام الملالي. كما أن بين الديمقراطيين من يعتبر أن نتائج العقوبات تعطي الإدارة الجديدة هامش مناورة كبيراً يمكن توظيفه لفرض المزيد من الضوابط على إيران، بما يضمن تغيير أعمق وأشمل لسلوكها، وهي مكتسبات لا ينبغي تبديدها بالتراجع المتعجل عنها.
4 - شكلت اتفاقات السلام الجديدة مع إسرائيل، لا سيما اتفاق السلام الإماراتي الإسرائيلي، مؤشرات إلى تغيير الطبيعة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وارتفاع منسوب التعاون بين هذه الدول بخصوص عدد من الملفات، لا سيما الملف الإيراني بأبعاده النووية وغير النووية، مما يعني أن القدرة على تجاوز مصالح هذه الدول بات أصعب بكثير مما كان عليه عام 2015، كما أن قدراتها على تأمين مصالحها بمعزل عن واشنطن متاحة ولو بهوامش مخاطرة ليست بسيطة. التفاهم مع إيران مصلحة للمنطقة ودولها كما هو مصلحة لإيران وللمجتمع الدولي وعلى رأسه واشنطن. السؤال ما حدود التفاهم، وما الملفات التي يغطيها، وما ضمانات الالتزام به؟