بقلم - سوسن الأبطح
بينما لا نزال نتساءل ما الذي سيحلّ بالكتاب الورقي، وندبّج المقالات في مستقبل الكتاب الإلكتروني، ويحار الناشرون العرب في ما يفعلون للخروج من مأزقهم، خطت الصين أشواطاً ضوئية في اتجاه كتابات وأدوات جديدة، تنظر إليها أوروبا والغرب كله بدهشة ورصد متزايدين.
منذ أكثر من عشرين سنة، فتحت الصين باباً لكتابة الأدب على الإنترنت، والاعتراف به وتنظيمه، وأعطته زخماً، متخطية تقليديتها، ورقابتها، وخوفها من التفلت. وبات الأدباء المعروفون اليوم، الذين تزيد أعمارهم على خمسة وثلاثين عاماً، هم من الذين بدأوا النشر على المواقع الرقمية.
وأحصي على هذه المواقع، التي تخضع لتنظيم دقيق، وبعضها كبير ووقور، أكثر من 19 مليون كاتب، ما يزيد على نصفهم من الشباب، ومنهم من حصد شهرة كبيرة، إضافة إلى مداخيل معتبرة. ثمة عناية بأن يكون هذا الأدب مثمراً ومنخرطاً في اقتصاد السوق. وحققت الكتابات على الشبكة مداخيل، صدق أو لا تصدق، وصلت إلى ما يقارب ثلاثة مليارات دولار في السنة. رقم خيالي بالفعل. لكن الانطلاقة الأساسية للمواقع المتخصصة، كانت ذات مقاصد تجارية وأدبية معاً.
النظام الإنترنتي الأدبي الذي أصبحت له صفة شعبية وترفيهية، ومنه ما تم الاعتراف به ضمن خانة الأدب الرسمي، أو التقليدي، انتقل إلى الورق، واستفاد من لوبيات للترجمة من الصينية إلى لغات العالم. إذ يوجد صينيون على الويب، في أكثر من دولة، يقومون بعمل ترجمات، يسهلون من خلالها انتقال أدبهم، والتعريف به بلغات أجنبية لا سيما الأوروبية. وبالتالي ترجم في فترة قياسية، أكثر من ثلاثة آلاف عمل إلى لغات مختلفة، بفضل هذه الآلية. بالطبع هذا أكثر جدوى من البكاء على إهمال الأمم لنا وللغاتنا، وتقاعسها عن ترجمتنا أو قراءتنا، والعناية بأمرنا.
الوضع المستجد، لا يرضي روائياً صينياً تقليدياً، مثل داي سيجي، يعتبر أن الأدب الصيني مات بسبب الثورة التكنولوجية، ويشعر بحاجة إلى البكاء حين يزور أوروبا ويرى الكتب الورقية في أيدي القراء في المترو، ويرثي المكتبات التي أغلقت في الصين، رغم أنه لا تزال مكتبات غاية في الضخامة موجودة في بلاده.
الأديب الإنترنتي في العادة، يكتب وينشر عمله على حلقات. وهو ما يسمح للقراء بالتفاعل، وإبداء الرأي، وتوجيه الأسئلة، وكذلك اللوم أو الثناء، ما يجعل الكاتب يعيد النظر فيما يدبّج أو ربما يصرّ على أسلوبه، ويمضي فيما يؤلّف. ويدفع القراء، إما اشتراكاً أو تبرعاً، تبعاً لمدى إعجابهم بالنص، ما يعتبر تشجيعاً لكاتبهم المفضل، ونوعاً من الشكر والاعتراف بالجميل. ولجوء المنصات الأدبية إلى التصنيف، والتحميس والإعلان عن أسماء الكتّاب الفائزين بمراتب أولى، تساعد في عملية الغربلة. كما تسهم أيضاً أندية القراءة، ومجموعات المعجبين، في الترويج لكاتب أحبته، أو تسدي النصح لآخرين بقراءته.
هكذا ابتكرت الصين وبتخلٍّ طوعي عن قبضة السلطة على الأدب، أو جزء منها، نظاماً جديداً في النشر. فقد بقيت المؤلفات الأدبية، لسنوات طوال، رهناً بالرقابة الرسمية التي تريد للمؤلفات أن تكون ترويجية لها، وتدعم وجهة نظرها، لتترك مع مطلع القرن الجديد، هامشاً يتسع حتى صار يتجاوز المتن في اتساعه. لكن الأمر ليس متروكاً للفوضى. فالمسؤولون عن المواقع يقرأون، وثمة لجان، وجوائز للقراء الذين يبلغون عن التجاوزات. فكرت السلطة في كل شيء؛ من إنعاش الأدب، إلى استثماره اقتصاديا، وصولاً إلى تنقيته وتشذيبه، وتقديمه خالصاً كما تتمنى. فلكل مشكلة عند الصينيين حلّ، وهذا أجمل درس يستفاد من تجربة، وجد العالم كله أنها قد تصطدم بألف جدار فأقلع عنها، ومضت فيها الصين، بما في ذلك حلّ معضلة الملكية الفكرية والأدبية.
منذ عام 1997 أنشأ رجل الأعمال الصيني - الأميركي ويليام تشو موقعاً أدبياً تجارياً، كان الأول من نوعه حينها، وكرّت السبحة. ولم يدخل القرن الحادي والعشرون، إلا وكانت المواقع قد أينعت، والحركة الأدبية عليها قد انتعشت.
وشهدت السنوات الأخيرة طفرة كبرى، وانتقالاً للكتابات التي نجحت من حيزها الرقمي إلى الطبع الورقي، والتداول الأكثر تقليدية، على عكس ما يحدث عندنا، حيث يُسرق ويُقرصن الكتاب الورقي الناجح ويوضع بصيغة إلكترونية على الشبكة، للتداول العام، بصرف النظر عن حقوق الناشر والمؤلف. ابحث جيداً، تجد أن النصوص الصينية الإنترنتية أصبحت مادة دسمة، لصناع السينما، ومنتجي الألعاب الإلكترونية، والكتب المصورة والمسلسلات التلفزيونية. هكذا انبثقت من هذا الأدب الذي استثمر، وكان يمكن له أن يبقى مشتتاً، هائماً، وبدأت تتفرع منه مجموعة من المنتجات الصناعية الثقافية الواعدة.
ومع أن الرواية هي الجنس الأكثر شعبية غير أننا نجد الشعر والنصوص المفتوحة والقصص القصيرة، والسرديات التاريخية. والفضاء مشرّع على غاربه لجميع الأشكال الكتابية، ولكل القراء، بما في ذلك محاولاتهم الإضافية إلى الأعمال، أو المشاركة في كتابتها. فمن اخترعوا لنا الورق ذات يوم، وأتحفوا العالم، بأهم أداة للكتابة، ها هم اليوم يستفيدون من أداة أتتهم من عنديات غيرهم، ليصبوا في قوالبها أفكارهم ونتاجاتهم وابتكاراتهم. حقاً التجربة الصينية للكتابة الأدبية على الإنترنت، ليست مثالية بالكامل، وقد لا تروق لكثيرين، لكنها تعتبر رائدة ولا مثيل لما يشبهها أو يقاربها، إلا في بعض الدول الآسيوية فإنها لا تزال وليدة ورائدة في الوقت نفسه، إنما تستحق أن يستفاد منها بشكل سريع وفعّال. فقد يكون القارئ - الحَكَم، هو الطريق الأجدى للخلاص من الشللية والنفاق، في الأوساط الثقافية، اللذين أوصلا الأدب العربي الحديث إلى قاع، في غاية الحلكة.