بقلم - سوسن الأبطح
حين سئل المحلل النفسي الشهير بوريس سيرولنيك عمَّ يقي الإنسان اليوم، من حاضره الأسود، ويمكّنه من التغلب على الحجْر والوحدة والكآبة؟ قال؛ إنهما أمران؛ التاريخ الفردي، والحلم. فبعض النجاحات السابقة تعطي البشري دفعاً، وأملاً في تحقيق المزيد، عند زوال الغمّة. والقدرة على إشغال الخيال بتصور حلول مستقبلية تجعل القابعين في المنازل يصمدون أمام الجائحة.
سيرولنيك أحد المفكرين الفرنسيين الذين تجاوزوا الثمانين، وارتأوا أن يكتبوا مراجعة للمسار الجماعي، في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية. وكبار السن من المفكرين الذين يخوضون تجربة المراجعات باتوا كثراً. بالطبع، ليس بينهم عرب رأوا في استعادة نقدية جراحية لما جرى طوال قرن فرصة لرؤية مختلفة للمستقبل.
لكنَّك في فرنسا ستعثر مثلاً على الفيلسوف اليساري ريجيس دوبريه، الذي أصدر وهو يحتفل بثمانينه، حكاية انتقاله من «من قرن إلى آخر»، في قراءة لمائة سنة عاصفة بالأحداث؛ حيث يتحدث نيابة عن جيل شهد موت العالم القديم وولادة آخر جديد، وانتقال البشرية، من القرن الأميركي إلى القرن الآسيوي، ومن الرسالة إلى التغريدة، من الريف إلى المناطق شبه الحضرية، ومن عصر الصناعة إلى الخدمات، ومن روح الغزو إلى مبدأ الإجراءات الاحترازية التي لا تقل فتكاً، من فرنسا الجمهورية إلى فرنسا الأميركية، ومن حكومة الشعب إلى حكومة الخبراء، ومن سيطرة الذكور إلى الصعود الأنثوي. وتحولت الدول المدنية التي بناها تقدميون في القرن العشرين مثل تركيا، الهند، مصر، باكستان، إلى شيء آخر مناقض تماماً.
في هذا الكتاب، يسير المفكر الكبير على خطى فيلسوف آخر، هو إدغار موران، الذي سبقه بعد أن تخطى التسعين، وحجر مريضاً في منزله، إلى تسجيل مراجعته العقلانية الغنية، لحياة بدأها، بوفاة أمه في محطة قطارات متأثرة بالإنفلونزا الإسبانية قبل 100 سنة، وصولاً إلى وباء «كورونا» الذي فتك بحريته وتركه حبيساً، ما يجعل الكتاب مذكرات لمفكر متنور، قضى عمره الطويل بين وباءين. هؤلاء الثوار- الكتّاب يقرأهم جمهورهم اليوم باهتمام بالغ، لأنهم يملكون العين القادرة على التشريح، ووصف الدواء، أو على الأقل، إيضاح الصورة التي باتت مشوشة ومضطربة.
بثّ الأمل في نفوس الناس مهمة العقلاء الذين نفتقدهم بحرقة. الحديث ليس عن الآمال الكاذبة المخادعة، وإنما باستعادة أحداث مشابهة، كما أوبئة سابقة وانهيارات لحقتها، استتبعها ولادة تيارات فكرية، وديناميكية اقتصادية، وتكتلات سياسية أكثر إنسانية. فبعد الحرب العالمية الثانية ولدت أنماط تفكير جديدة، وعرفت الفنون مدارس ومذاهب شتى، وبعد الجائحة الحالية ثمة صورة أخرى للأرض ستتشكل، لكنها لا تشبه في شيء منتصف القرن الماضي. فوسائل التواصل التي وصفها المفكر جاك أتالي بأنها «حفّار قبور الديمقراطية»، هي عنصر جديد، يضاف إليه ضعف سلطة الصحافة التقليدية المستقلة، وهو ما قد يؤدي إذا لم يستدرك الأمر بحزم إلى «موت الحقيقة». ومما ينبه إليه، هو ما ستفعله الصورة الثلاثية الأبعاد خلال سنوات قليلة مقبلة، مع بدء العمل الكثيف بتقنية 5 جي، التي ستجعل ما ينقل إلى الناس، وكأنه واقع لا يمكن الشك فيه أو السؤال حول مصداقيته، مع أن موجات المخادعة ستتصاعد، بما لا يقاس إلى ما نشهده في الوقت الراهن.
لا يريد الحكماء، الذين يعودون بقوة ليتصدروا صفحات الصحف، بمراجعاتهم العلمية بث التشاؤم، بل فتح نوافذ حيوية للخروج من المحنة. «عدم اليقين» فرصة ذهبية، للبحث عن الأفضل، و«الثبات» ليس من شيم الأحياء، وإن كانت الغالبية تحب الركون إليه، فهو غير موجود، ودليل موت. لذلك يخّير سيرولنيك قراءة، بين 3 مخارج لا رابع لها؛ العودة إلى ما سبق، وهذه فاتحة جحيم مقيم، وأمر غير متاح أصلاً، لأن التحولات حصلت بالفعل ولا داعي لإنكارها، أو التصويت لديكتاتوريين، وهؤلاء بات لهم أنصارهم الذين يتزايدون، أو اختيار ولادة جديدة. وهذا هو الخلاص الوحيد، ويحتاج عقلاء يمسكون بزمام الأمور، ومبتكرين يساعدونهم على تجسيد أفكارهم.
ورغم شكوى الناشرين والمكتبات في أوروبا، من انهيارات الإغلاق المتلاحقة، فإن مبيعات الكتب تزدهر، وسجناء المنازل يقرأون، ويفكرون، ويتابعون ما يصدر. الصحف لا تقصّر في الترويج لما يطرح من أفكار، ومحطات التلفزة والإذاعات تتابع دورها في التوعية والإضاءة على كبار القوم الذين يصغى إليهم باهتمام، ولا يرمون بتهمة الخرف، وأوهام الشيخوخة. وهناك من يتحدث عن «معجزة القراءة» في هذه اللحظة القاتمة بالذات، وقدرتها على تحرير العقول حين تكون الأجساد في الأسر، والإرباك هو المسيطر. وهو ما لا يشبه في شيء ما يدور في ديارنا؛ حيث تبخرت النخبة، وتحولت إلى أبواق مبحوحة الصوت.
إذا كان للأوبئة من دور، فهو أنها تحت وطأة المرض والأسى والفقر، تجبر المزيفين على إسقاط أقنعتهم. إنها المأساة التي تعرّي النفوس، وتقلب المقاييس، وتلزم المهرجين على وقف مهزلتهم. حكماء العرب موجودون. والمثقف لم يكن يوماً غالبية، فهو كما يقول إدغار موران، الذي ذاق كل أنواع الصدّ والعزلة، تجده دوماً وحيداً في مواجهة تيار جارف، وعليه أن يقبل بهذا الدور، حتى لو هجره الناس أجمعون.