بقلم - د. آمال موسى
أثارت الندوة التي انتظمت مؤخراً تكريماً لفكر عالم الاجتماع التونسي المنصف وناس الذي فارقنا مؤخراً بسبب إصابته بفيروس «كورونا»، مواضيع عدة مهمة تعكس جديّة المباحث التي انشغل بها الدكتور وناس وتعمق فيها قناعة منه بجدواها معرفياً.ولقد استأثر كتابه المعروف عن الشخصية التونسية القاعدية بمحور مستقل من محاور الندوة، وأجج شهية النّقاش والحوار، ما أدى بالبعض إلى طرح أسئلة مهمة بدورها، وتحتاج إلى ندوات مستقلة، تتعدد فيها المقاربات، وتتقارع فيما بينها، بحثاً عن الأكثر وجاهة في التحليل والاستنتاج.
من الأسئلة التي طرحت بكثير من اللطف والتقدير لإطار الندوة ذي الطابع التكريمي لمفكر عرف بكرمه الفكري والإنساني، نشير إلى التدخلات التي أثارت جدوى البحوث التي تنظر في الشخصية الأساسية في المجتمعات العربية اليوم.وكما نلاحظ فإننا أمام سؤال يُشكك في مشروعية بحوث الشخصية الأساسية. وطبعاً استناداً إلى الرؤية الديكارتية في العلم فإن الشك في هذا السياق مثمر ومنطلق جيد لخوض رحلة إثبات المشروعية أو نفيها.ومستندات المواقف التي تتعامل بفتور مع مباحث الشخصية القاعدية أو الشخصية الأساسية أن الحقول المعرفية البحثية في أوروبا لا تُراهن على هذه المواضيع في تفسير الظواهر الاجتماعية الخاصة بالمجتمعات الأوروبية وفهمها. أما المستند الثاني فيتمثل في كون الفردانية لم تعد تسمح بالوثوق بنتائج بحوث تعنى بالشخصية القاعدية للمجتمعات العربية اليوم.
وكما هو معلوم فأبحاث الشخصية القاعدية تندرج ضمن الأنثروبولوجيا الثقافية. والمقصود بالشخصية القاعدية، كما حددها العالم النفسي أبرام كردينار، الشخصية الاجتماعية الثقافية المشتركة بين مجموع مكونات جماعة خاصة أو مجتمع يربط بين أفراده نظام مشترك من القيم والمعايير وطرق الاستجابة.
أولاً من المهم الإشارة إلى أن الجدل حول أهمية بحوث الشخصية القاعدية من عدمه له ما يبرره، إذ يفرض الانخراط في هذه البحوث تحديد مجموعة من المواقف تتعلق بالمؤسسات الاجتماعية وموقع الفرد ودوره في المجتمع ومدى تغلغل فكر الحداثة وقيمها. بمعنى آخر، فإن الباحث الأوروبي في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي لا يهتم بمسألة الشخصية القاعدية لأن حداثة المجتمع الأوروبي أمر محسوم، وهي حداثة عريقة، فعلت فعلها في الرأسمال الرمزي الأوروبي بشكل عام، إضافة إلى أن ما قامت به الحداثة من هدم للمؤسسات ومن إعلاء لشأن الفرد وإيلائه دور الفاعل وموقع المركز جعل من النبش معرفياً في النظام القيمي المشترك الذي تنقله عادة النظم الاجتماعية من خلال عملية التنشئة الاجتماعية... عملاً لا جدوى معرفية ترجى منه، والحال أن الفردانية أطاحت المؤسسات الاجتماعية الأولية مثل الأسرة والمدرسة، حتى لو كانت هذه الإطاحة الرمزية تختلف من تجربة مجتمع إلى آخر.
إذن انحسار حتمية دور المؤسسات وتراجع هيمنتها على الفرد في المجتمعات الأوروبية أديا إلى تجاوز علم الشخصية القاعدية.
السؤال هل يشبه حالنا مع الحداثة حال المجتمعات العربية؟ ثم هل لم تعد مؤسساتنا اليوم تحكم في المجتمع، ورفعت يدها عن الفرد تماماً كما يحلّق الفرد الأوروبي اليوم في حل من تاريخ طويل من هيمنة المؤسسات الاجتماعية؟
الإجابة؛ لا نظن أننا طوينا مرحلة المجتمع التقليدي، وأننا حالياً تتوفر فينا مقومات المجتمع الحداثي الفرداني. بل المشكلة اليوم ليست في الانتقال من عدمه، بل في مخاض الانتقال والتشظي بين التقليدي والتحديثي. ولا يخفى على الباحثين أن غالبية الظاهرة المنتشرة اليوم في مجتمعاتنا هي نتاج تعثر هذا الانتقال وتعبير عن صعوبات عملية التغيير الاجتماعي نحو الحداثة رغم الانفتاح على بعض مظاهرها.
ونعتقد أن مباحث الشخصية الأساسية يمكنها أن تكشف لنا أسباب التعثر الكامنة في الثقافي المشترك، ومن ثم القبض على مواطن العطب. فما تعيشه الشخصية العربية اليوم من صراعات ظاهرة وغير ظاهرة بين سجلات قيمية مختلفة ومتنافرة هو الذي ولّد نوعاً من التأزم، وجعل عملية التغيير الثقافي شاقة. لذلك، فإن التشريح العلمي الذي تقوم به نظريات الشخصية الأساسية يمكّن المجتمع من معرفة القيم الثقافية والتصورات المانعة للانخراط في التحديث والمواطنة والمدنية والمساواة. فالأنظمة الثقافية الاجتماعية المشتركة المعادية لحرية المعتقد وللمساواة، والتي تعاني من العنصرية والتمييز المتغلغلين في الرأسمال الثقافي الجمعي، من الصعب أن تتحول في مجتمعاتها القوانين الدستورية إلى ممارسات اجتماعية.
وهكذا نفهم لماذا نحن فعلاً في حاجة إلى علم الشخصية القاعدية الأساسية كي نفهم مجتمعاتنا وما يعطل خطواتها نحو التحديث الحقيقي الذي يعنى بالعقل ويتبوأ الفرد مكانة الفاعل الاجتماعي العقلاني. فنحن لا نمتلك ترف التجاوز الذي تتمتع به المجتمعات الأوروبية.
طبعاً نقول هذا الكلام بحذر شديد لأن سمات الحداثة أيضاً تنتج شخصية قاعدية، خصوصاً أن الحداثة منظومة قيم ونظام ثقافي مشترك ويرنو إلى الإنسانية جمعاء. فالشخصية الأوروبية التي تحتكم اليوم إلى قيم الحداثة والفردانية هي أيضاً تمتلك نظاماً ثقافياً اجتماعياً مشتركاً، أصبح يمثل الحتمية المضادة للحتمية الكليانية.
إنّ المخيال والتمثلات العربية لا تزال في ارتباط بالنسق الثقافي العربي المشترك، والفوارق لا تفسد كثيراً الاستنتاجات العامة.