بقلم - د. آمال موسى
لا شك في أن ما عاشته الإنسانية طوال ما يقارب السنة بالنسبة إلى فيروس «كورونا» الذي أربك نظام الحياة في كوكب الأرض، هو محنة بأتم المعاني. وليس صعباً رصد مظاهر هذه المحنة سواء في أو تضرر السياحة بعد أن اعتبرت رئة لا غنى عنها تتنفس من خلالها أغلب اقتصادات العالم ناهيك من محنة المرض في حد ذاته وما يعقبه من سيناريو الشفاء أو الموت.
إذن مؤشرات المحنة دامغة، ولكن ما يستحق الانتباه إضافة إلى جانب المحنة، هو ما تعنيه الجائحة من امتحان حقيقي وجدي، وهنا لا نقصد فحسب قدرة مؤسسات كل دولة على حدة في المواجهة وتقديم الرعاية الصحية لمواطنيها بقدر ما نقصد مدى انعكاس الاتفاقيات الدولية والمعاهدات في الممارسات والسلوك وطرق التصرف، خاصة بعد التوصل إلى إنتاج لقاحات ضد الفيروس المستجد.
بمعنى آخر نحن في لحظة اختبار مدى صدقية ومصداقية الشعارات الحقوقية والملتزمين بها والدعاة إليها. فالعلم وإنجازاته لصالح البشرية جمعاء، ولا نعتقد أن ما يتعلق باللقاح ضد فيروس خطير أزهق ملايين الأرواح ولا يزال، يمكن أن نتعامل معه بوصفه سلعة وضمن ثقافة السوق القائمة على مبدأ العرض وطلب وأولوية من يدفع أكثر.
لا نظن أن المحنة الإنسانية التي عشناها ولا نزال، تسمح بتشكل مجموعة جديدة من الأثرياء الذين تعودنا عليهم في تاريخ المحن الكبرى والذين أطلقنا عليهم صفة أثرياء الحروب.
فهل محنة «الكورونا» بصدد إنتاج ما نسميه «أثرياء الكورونا»؟
في الدول التي لم يتم اتباع سياسة المجانية فيها بالنسبة إلى التحاليل وغير ذلك، لاحظنا ظهور سوق للتكسب والاستشراء فارتفعت أسعار التحليل وأسعار العلاج من «الكورونا» في المصحات، حيث بلغت تكلفة التداوي من هذا الفيروس في المصحات التونسية مثلاً قرابة الثلاثين ديناراً أي ما يعادل الثلاثة عشر ألف دولار، وهو ما يعني أن محنة «الكورونا» أسالت لعاب تجار مهنة الطبّ وعلى ما يبدو أيضاً الشركات الكبرى التي أنتجت اللقاح الذي يشكل حالياً أكبر عملة صعبة.
فمن الواضح، وهذا أمر طبيعي جداً، أن هذه الشركات ومهما كانت عملاقة فإنّها لا تستطيع أن تنتج لقاحات لعدد سكان العالم الذي يقدر بالمليارات. ولكن رغم هذه الاستحالة وبدل إيجاد حل فيما يخص تعميم براءة الاختراع ليكون ذلك ثمرة التكافل والتضامن الإنساني، نجد أن الاحتكار هو البديل وقوائم الانتظار هي الحل.
فالواقع يجسد بجلاء التفاضلية بين الشعوب؛ شعوب لا مشكلة لها مع التطعيم واستعمال اللقاح، وشعوب بات اللقاح حلمها البعيد المنال. بل إن الأمر أصبح رهن العطف والتفهم ومدى كرم دولة على دولة أخرى.
هنا يكمن الاختبار الإنساني والامتحان الحقيقي المباشر لما يسمى الحق في الصحة والحق في الحياة وحقوق الإنسان والمواطنة العالمية والمساواة وفيما نحتفل به سنوياً تحت إشراف الأمم المتحدة باليوم العالمي للتضامن واليوم العالمي للعدالة الاجتماعية وغيرها من المناسبات البراقة التي أظهر اختبار «الكورونا» كم هي شعارات صعبة الترجمة والبرهنة عليها في أرض الواقع والممارسات.
قد يبدو ما ذهبنا إليه نوعاً من الخطاب المثالي المفرط في المثل الخيالية. غير أننا نرى في هذا الخطاب منتهى الواقعية والعقلانية للاعتبارات التالية: أولاً الابتكارات والاختراعات هي ملك للإنسانية، وهي ثمرة العقل الإنساني وما عرفه من تاريخ طويل ساهمت فيه كل الحضارات والأمم. أيضاً نحن أمام موضوع حساس جداً، فالقضية ليست اختراع سلاح أو صاروخ من نوع خاص، بل إننا أمام لقاح يحتاج إليه الإنسان لكي لا يمرض ولكي لا ينقل العدوى لغيره ولكي لا يموت.
كما أن احتكار العلم وعدم امتلاك الشجاعة وروح العطاء... كلها مظاهر تؤكد الجشع وتظهر أن وصف الرأسمالية بالتوحش ليس آيديولوجيا بقدر ما هو نزعة قائمة الذات. لذلك فإن الخطاب حول الحقوق لن يجد كثيرا من الآذان الصاغية بعد محنة «الكورونا» باعتبار أن الواقع كشف زيف الخطاب وتخبطه بين البعد الإنساني وجشع التاجر.
من جهة ثانية، نشير إلى نقطة لا نظن أن علماء الفيروسات تفوتهم، وهي أن القضاء على الفيروس المستجد يكون باللقاح على مستوى الإنسانية ولا يمكن القضاء على فيروس ينتقل بواسطة العدوى من دون تعميم اللقاح. فلا ننسى قصة بداية انتشاره وكيف انتقل من الصين إلى كل دول العالم.
صحيح أن العالم مقسم إلى دول قوية غنية وأخرى فقيرة ضعيفة، وصحيح أيضاً أن العالم تعيش فيه مجموعات متخلفة وأخرى متقدمة. ولكن الأكثر صحة هو أن الحق في الصحة يجب ألا ينخرط في لعبة الطبقية بين الدول والمجتمعات.
ففي مثل هذه اللحظة المتوقع هو أن يصبح الحق في اللقاح غير قابل للتّمايز، والحل في تمكين المختبرات في مختلف أنحاء العالم من براءة اختراع اللقاح.