بقلم: خالد منتصر
كم نحتاجك اليوم يا رجاء، فى ذكرى رحيل الناقد العظيم رجاء النقاش كررت تلك الجملة كثيراً، فزمان التيك أواى يحتاج إلى ناقد بحجم وجدية وتذوق وذكاء وموسوعية رجاء النقاش، الذى كان كصياد اللؤلؤ يبحث ويجتهد ويحتفى بأى شاعر أو روائى أو كاتب مسرحى من خلال الورق حتى دون أن يقابله شخصياً، لم يكن ناقد شلة أو تنظيم أو حزب، كان عاشقاً للجمال. جواهرجى يعشق الألماظ الحر الحقيقى.
كان توقيع «النقاش» مثل ختم النسر فى الحكومة، هو جواز مرور الفنان إلى عالم النجومية والاحتراف، هو الجسر الذى يعبر عليه من يتلمسون ضوء الجماهيرية فى بداياتهم، فعل ذلك مع الشاعر الفلسطينى محمود درويش وقدمه قبل أن يأتى إلى مصر.
فعل ذلك مع الروائى السودانى الطيب صالح الذى لم يكن معروفاً، وكتب مقدمة ديوان «مدينة بلا قلب» الذى رسخ هو وديوان «الناس فى بلادى» للشعر الحديث فى مصر والعالم العربى، كان الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى -كما حكى لى- شاباً تائهاً فى دروب القاهرة، حضر من تلا منوفية بلا عمل بعد منعه من التدريس، لا يملك إلا موهبته، قابل رجاء النقاش فى ندوة أنور المعداوى على قهوة عبدالله بالجيزة، تحمس «رجاء» وافتتن بشعر حجازى وساعده على النشر فى مجلة الآداب البيروتية.
ثم كتب مقدمته الساحرة للديوان التى تعتبر بمثابة مانيفستو الشعر الحديث، الكتابة عن رجاء النقاش تحتاج مجلدات، وأياديه البيضاء على جيلى لا تنسى، يكفى أننا كنا نلتهم مجلة «الدوحة» التى كان يرأس تحريرها فى وقت انحسرت فيه كل المجلات الثقافية فى مصر، كانت الدوحة مجلة مبهرة شكلاً وموضوعاً، كانت وجبة ثقافية من كل الفنون، من الفن التشكيلى والنحت حتى الشعر والقصة، تعرفنا من خلالها على أهم الكتاب العرب من المحيط إلى الخليج.
يكفى حواره المتفرد مع نجيب محفوظ الذى أصدره فى كتاب يعد مرجعاً لكل من يريد التعرف عليه، يكفى أنه عندما تولى الإشراف على مجلة الإذاعة والتليفزيون جعلها منبراً ثقافياً، فقد نشر فيها على سبيل المثال «المرايا» لنجيب محفوظ، كان مذاق مجلة الكواكب والهلال فى عصره مذاقاً مختلفاً، له بصمة كالوشم فى قلوبنا وعقولنا، كتابه «عباقرة ومجانين» الذى أتمنى إعادة طباعته، هو كتاب ممتع تتعلم منه أن الكتابة فى الثقافة لابد أن تكون جذابة.
عشقه للغة العربية التى عرف أسرارها من خلال تخرجه فى قسم اللغة العربية فى كلية الآداب، جعله يستطيع كشف وفرز الكاتب الزائف من الحقيقى من ترمومتر الرشاقة اللغوية، مواقفه الإنسانية النابعة من حسه الثقافى العالى وبوصلته الإبداعية الدقيقة جعلته يتصدى لمواقف كان من الممكن أن تعصف به، فلأنه يعرف جيداً أن نزار قبانى فنان، وشاعر موجوع بالهزيمة، وأن «هوامش على دفتر النكسة» مكتوبة بمداد الألم لا الشماتة.
وبنزف الجرح لا بشهوة الخيانة والتشفى، تدخل وتوسط لنزار قبانى ولتوضيح وجهة نظره للنظام الناصرى الذى لم يتعامل وقتها مع القصيدة على أنها صرخة شاعر، بل تعامل بعض أفراده معها على أنها منشور انتقامى.
وعاد نزار قبانى إلى حضن مصر كفنان وشاعر يُحتفى به ولا يُنتقم منه، هذا هو رجاء النقاش الذى ينتصر للجمال وللفن وليس للحنجورية السياسية الزاعقة المباشرة، كم نفتقد البدر «رجاء» الذى نقش فى شغاف القلب نوره فى الليلة الظلماء.