بقلم : محمود خليل
وترٌ آخر فى المزاج المصرى أجاد حسن البنا العزف عليه، وهو وتر «القسمة إلى فريقين»، أيام الثورة العرابية على سبيل المثال انقسم المصريون إلى فريق «العرابيين» وفريق «الجراكسة.. الأبالسة»، وانقسموا أيام ثورة 1919 إلى «سعديين» و«عدليين»، وهكذا استمرت الحال.
«البنا» كان واعياً بهذا الوتر من أوتار «المزاج المصرى» فمال منذ اللحظة الأولى إلى العزف عليه فلم يكتف بتسمية جماعته بـ«الإخوان»، بل قرر أن يصف نفسه وإخوانه بـ«المسلمين» حتى يستقل بهم كفريق منفصل عن غيرهم ويعرّض بإسلام من يغردون خارج سرب الجماعة، ففريق الجماعة هو الذى يملك الفهم الصحيح للإسلام، وإسلامهم ليس إسلاماً بالاسم، كما هو حال غيرهم، بل إسلام بالقول والعمل كما يزعم الإخوان.
كان «البنا» حريصاً على تمييز أتباعه ومريديه عن غيرهم من المصريين. يقول محمود عبدالحليم فى «أحداث صنعت التاريخ» إن المرشد قرر إبراز الإخوان باعتبارهم فئة مميزة فتم اقتراح أن تكون الخطوات الأولى لذلك ممثلة فى ابتكار «شارة» خاصة بالجماعة، فكانت شارة السيفين المتقاطعين وبينهما المصحف وأسفل السيفين كلمة «وأعدوا»، كذلك قررت الجماعة إصدار مجلة تخاطب من خلالها الفريق الذى يلعب معها أو يتعاطف مع أفكارها، أجاد حسن البنا أيضاً توظيف «روح القطيع» فى الحشد الإخوانى، ونجح فى اللعب على سيكولوجية البسطاء واستغلال روح القطيع التى تحكمها وتسيطر على سلوكيات الفرد عندما يجد نفسه وسطها، اختار حسن البنا بعد انتقاله إلى القاهرة حى الناصرية بالسيدة زينب ليؤسس فيه المركز العام الأول للإخوان بالعاصمة، وهو حى يشتهر بالكثافة السكانية، ومنه انتقلت الجماعة إلى مركز جديد بالعتبة الخضراء.
يصف محمود عبدالحليم هذا الحى قائلاً: «كان ميدان العتبة إذ ذاك أعظم ميدان فى القاهرة وهو ملتقى المواصلات ومعترك التجارة ومهوى أفئدة أهل القاهرة والوافدين إليها من مختلف البلاد»، من حى العتبة أخذت الحركة فى التمدد واستقطاب المزيد من المريدين والأتباع، خصوصاً أنها آثرت التحرك بين الكتل والتجمعات، مثل نقابة معلمى التعليم الإلزامى، وشرعت أيضاً فى عقد المؤتمرات واستغلال كل المناسبات الممكنة فى حشد الأتباع والمتعاطفين.
تحرك «البنا» إلى المنصورة وأسيوط وبين صغار العمال والموظفين، واعتمد على ملاغاة المزاج الشعبوى بحيل وطرق جديدة تدق على الأوتار التى تسعده وتبهجه.
أدرك أن الروح الشعبوية تميل إلى الطرب فأنعشها بأناشيد جماعية يسكر فيها الجميع بمعانٍ خيالية بعيدة عن واقعهم المتردى وبأنغام تمزج بن أوتار الصوفية وطبول الزار الجماعى، داعب تقديس البسطاء للطقوس، فاتفق مع أذرعه المختلفة التى تتولى جمع الأتباع للاستماع إلى محاضرة المرشد بالمركز العام للجماعة، على تنظيم مسيرات تخرج من المساجد الكبرى، مثل مسجد السيدة زينب، بعد صلاة العشاء، وينخرط كل من يشارك فيها فى الإنشاد الجماعى بصورة تستلفت انتباه من يسيرون فى الشوارع والحوارى وتغريهم بالانضمام إلى ركب الطرب المتحرك، وكثيراً ما كان ينضم رواد جدد إلى المسيرات ليفاجأوا فى الختام بأنهم فى المركز العام للجماعة يستمعون إلى المرشد، ابتكر حسن البنا طقوساً جديدة فى المناسبات المهمة مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، فأمر أتباعه بتنظيم مسيرات التكبير والتهليل فى كل حدب وصوب وقرر أن يجعل الصلاة فى ساحة كبرى مكشوفة خارج العمار، بعد سنين طويلة اعتاد فيها المصريون الصلاة فى مساجد القاهرة العامرة.
يصف محمود عبدالحليم مشهد صلاة العيد قائلاً: «بعد صلاة الفجر خرجنا متوجهين لصلاة العيد وقد عوّدنا المرشد على أدائها فى مكان خارج المدينة فى مكان فسيح أشبه بالصحراء، ولم أرَ فى حياتى صلاة عيد فى مثل هذه الروعة. إن المسلمين عن بكرة أبيهم اتجهوا إلى هذا المكان فكلٌ يسلك الشوارع التى تؤدى به إلى مكان الصلاة، والكل يكبر تكبير العيد منذ أن يخرج من منزله حتى يصل إلى المكان، فكنت ترى جميع الشوارع تسيل بجموع المسلمين تصيح بالتكبير بصورة لا يملك الإنسان أمامها نفسه فترى الدموع تنهمر من العيون لروعة المنظر وروعة ما تسمعه»، لقد نجح «البنا» فى مغازلة روح «القطيع الشعبوى» بصورة غير مسبوقة!.