مشكلة كبرى يقع فيها البعض حين يحللون الأحداث وما تنعت به من أوصاف بعيداً عن السياق التاريخى الذى وقعت فيه.
دعونا نأخذ نموذجاً على ذلك مما قاله الدكتور مختار جمعة وزير الأوقاف، أمام مجلس النواب، حين ذكر أنه لا يوجد فى القرآن الكريم والإسلام ما يسمى «غزوات»، فهو مسمى خاطئ والإسلام سمّاها «أيام» مثل «يوم حنين» كما ذكر بالقرآن، موضحاً أن المسمى يعنى أن الإسلام لم يقُم بالغزو.
بداية هناك توافق على أن وصف «الغزوة» ينطبق فقط على المعارك التى خاضها النبى صلى الله عليه وسلم، أما ما عداها فهى معارك.
وعلى عكس ما قال الدكتور «جمعة» فقد ورد وصف «الغزاة» فى القرآن الكريم فى الآية رقم 156 من سورة آل عمران، ويقول الله فيها: «يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا فى الأرض أو كانوا غُزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا». ويشير القرطبى فى تفسيره إلى أن معنى كلمة «غُزى» هو «غزاة». ولفظ «غزى» جمع مفرده «غاز».
وإذا كان الوزير يستهدف من هذا الطرح تبرئة الإسلام من العنف والاعتداء على الآخرين وأن الحرب فى الإسلام دفاعية بالأساس، وهو ما أتفق معه فيه، فإن وصف «أيام» كنعت لحروب الرسول لا يحمل دلالة على فكرة «الدفاع». والدليل على ذلك أن «يوم حنين» شهد حرباً تأمينية خاضها النبى صلى الله عليه وسلم ضد كل من قبيلتى «هوازن وثقيف».
وبُعد التأمين هذا هو البعد الذى يمكن أن يفسر لنا تحرك النبى لمحاربة قبائل أو أقوام درءاً لمخاطر متوقعة، كما حدث فى معركة «بدر» وكما حدث «يوم حنين».
ومفهوم التأمين هو مفهوم دفاعى بالأساس يتسق مع التوجيه القرآنى: «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين». فالمسلم يقاتل من يقاتله، فإذا غزاه غيره دافع عن أرضه، وإذا ارتأى ولى الأمر أن هناك دواعى تأمينية تستدعى التحرك نحو العدو فعل.
حروب النبى صلى الله عليه وسلم موصوفة بالغزوات فى القرآن الكريم، وقد كانت فى جوهرها حروباً تأمينية، يدافع المسلمون فيها عن أنفسهم ضد غزاة آخرين.
وإذا كان الهدف من نفى وصف «الغزو» أو «الغزاة» عن النبى وأصحابه استغلال الإرهابيين له، واتجاههم إلى نعت أعمالهم الإرهابية بـ«الغزوات»، فإن ذلك لا يبرر نفى وصف قرآنى معتمد عن حروب النبى. فالكل يعلم أن أفعال الجماعات الإرهابية لا تمت إلى الدين بِصِلة، بل تحاول التمحك بالدين من أجل تحقيق أهداف دنيوية.
حروب النبى كان لها ظروفها وسياقاتها الخاصة التى يجب ألا نهدرها، وقد وقعت فى زمان اعتادت فيه القبائل العربية على غزو بعضها البعض.
كما أن الحروب التى خاضها العرب بعد وفاة النبى وقعت فى سياقات محددة يجب ألا ننتزعها منها. فحرب العرب ضد الفرس وكذلك ضد الروم تمت فى واقع تاريخى كان غزو الآخر يشكل جزءاً منه. ولعلك تعلم أن الفرس سيطروا على العراق بالغزو (دولة المناذرة) قبل أن يتحرك العرب فى اتجاههم، وكان الروم يسيطرون على الشام بالغزو (دولة الغساسنة).
أما الإسلام كعقيدة فقد انتشر فى أصقاع الأرض بالحكمة والموعظة الحسنة والقدوة الإنسانية الطيبة.
غزوات النبى كانت دفاعية/تأمينية.. وحروب المسلمين من بعده صلى الله عليه وسلم كانت سياسية ولم تكن دينية. وليس من المنطق أن يطلب البعض من الناس عدم خلط السياسة بالدين، ثم يقع هو نفسه فى الفخ.