أساطير كثيرة ارتبطت بآخر كلمات رددها سعد زغلول قبل وفاته، قد يكون من المفيد التذكير بأشهرها، وهى عبارة: «مفيش فايدة». وهى العبارة التى جرت على ألسنة المصريين مجرى المثل، وما أكثر ما يتم استدعاؤها حال اليأس من تغيير أى وضع قائم.
ومن مراجعة العديد من الكتابات التاريخية يتضح أن سعداً لم يردد هذه العبارة. ففى التقرير الذى نشرته «المصور» حول اللحظات الأخيرة لسعد جاء أن الزعيم قال لأم المصريين عندما لاحظ تشبثها بالأمل فى شفائه: «أنا رايح.. أنا رايح».
وأشار التقرير أيضاً إلى عبارة: «أنا انتهيت»، متفقاً مع ما ذهب إليه أحمد بهاء الدين فى كتابه «أيام لها تاريخ» من أن آخر كلمات رددها الزعيم كانت: «أنا انتهيت».
فى كل الأحوال لا تعكس أى من العبارات التى رددها سعد باشا قبل وفاته يأساً من التغيير، قدر ما تعبّر عن يأس من الحياة، لأن الرجل بالفعل غيّر كثيراً فى وجه الحياة فى مصر.
ولد سعد كما يولد كل الرجال، ومات كما يموت كل حى، لكن تأثير شخصيته على من جايله من المصريين، وعلى من آمنوا بتجربته السياسية من بعده كان عظيماً.
ومؤكد أن هذا التأثير كان له ما يبرره على مستويات عديدة، على مستوى الموضوع بدأت مصر تجربتها الليبرالية الأولى مع ظهور سعد زغلول وتأسيس حزب الوفد، لتغرس فى الشارع المصرى أفكار المواطنة والدولة المدنية القائمة على المساواة بين جميع المواطنين دون تمييز بسبب دين أو جنس أو لغة.
وقد مثّل دستور مصر الصادر عام 1923 الوثيقة الأساسية المعبرة عن مجمل أفكار هذه التجربة، وهو الدستور الذى شملت اللجنة التى تولت صياغته كل الأطياف السياسية والدينية المصرية.
وعقب صدور هذا الدستور تشكل واحد من أهم وأخطر البرلمانات فى تاريخ التجربة السياسية المصرية، لقد نجحت ثورة 1919 فى خلق مناخ ثقافى وفكرى وفنى جعل منها تاريخاً فاصلاً يفرق ما قبلها عما بعدها على كل المستويات.
وعلى مستوى الشخصية كان سعد زغلول من الشخصيات شديدة التأثير فى المصريين، خصوصاً من عاصروه وشاركوه الحلم فى تحرير مصر وبناء تجربة برلمانية ديمقراطية حقيقية. اعتبر المصريون هذا الفلاح ترجمة لآمالهم فى نظام حكم أفضل ودولة وطنية حقيقية.
وشأنه شأن كل زعيم كبير كان هناك من يختلف حول شخصه، ليس من بين قراء التاريخ فقط، بل من بين معاصريه أيضاً. فهناك من كان يتهمه بالأرجزة والشعبوية وخداع الجماهير وإغراقهم فى أحلام غير واقعية بمعسول الكلمات.
خصوم سعد من الأحرار الدستوريين كانوا يرددون هذه الاتهامات فى وجهه، وبلغ الأمر بهم حد اتهام ذمته المالية.
شخصية سعد زغلول متنوعة الظلال، فقد مرت بتقلبات وتحولات عديدة على مدار عمره الذى امتد لتسع وستين عاماً، واشتملت على خريطة إنسانية متنوعة الأخلاقيات والسلوكيات والمواقف بصورة جعلت كل من يريد القدح يستطيع أن يجد فيها ما يستدل به على هجومه عليه، ومكنت من يريد المدح والارتفاع به إلى مصاف الزعماء الملهمين من العثور على ما يؤيد توجهه نحوه.
ولو أنك تأملت ما كتبه أديب نوبل «نجيب محفوظ» حول سعد زغلول فستجد وصفاً منصفاً للرجل يذكر فيه سلبياته كما يحتفى بإيجابياته. فهو من وجهة نظره الزعيم الذى أسهم فى تخليص مصر من الاحتلال الإنجليزى، وهو الإنسان الذى اعترف بنقاط ضعفه وخاض رحلة تسامى فيها على ذاته حتى أصبح أمل جميع المصريين.
والمتأمل للجزء الخاص بشخصية سعد فى رواية: «أمام العرش» يشعر أنه أمام كاتب عرف كيف يعبر عن زعيم. يقول نجيب محفوظ على لسان أوزوريس، رئيس محكمة التاريخ، لـ«سعد باشا»: «إنك أول مصرى يتولى الحكم منذ العهد الفرعونى، وتوليته بإرادة الشعب، من أجل ذلك أهبك حق الجلوس بين الخالدين من أجدادك».