بقلم : أمينة خيري
قطعنا شوطًا كبيرًا جدًا منذ أطَلّت علينا منصات الإنترنت المختلفة بقدراتها ومواردها قبل نحو عقدين. وكعادتنا فى بلاد بعيدة عن مراكز الابتكار وغارقة فى الجلوس على الدكة للتنظير ثم التحذير، نعتبر كل عابر للحدود شرًا مطلقًا قبل أن نبدأ فى الإفتاء بالحرمانية أو التهديد لعاداتنا وتقاليدنا، ثم مطالبين للمبتكرين بأن يُفصِّلوا لنا منصات على مقاسنا، وبعدها نصرخ مُحرِّضين إياهم على منع ما يجرح مشاعرنا الرقيقة وما يُوقظنا من غفلتنا العميقة بحجة إهانة ثقافتنا وإلحاق الضرر النفسى بنفسياتنا السامية، نجد أنفسنا وقد انقلبت الآية وتحولت الرواية من «الإنترنت فيه سم قاتل لأبنائنا» و«السوشيال ميديا ستهدم منظومتنا الأخلاقية على رؤوسنا» إلى «الإنترنت ساحة للجهاد» و«السوشيال ميديا مجال خصب لنشر معتقداتنا وبث أفكارنا ليعم الخير أرجاء البرية».
والمتابع لمجريات المنصات الرقمية على مدار عقدين يلاحظ أنها تحولت من أداة يستخدمها الإنسان للمعرفة والتواصل إلى كيان قادر على تحويل الإنسان وتواصلاته إلى أدوات تحقق مصالح الشركات والكيانات. والأهم من ذلك هو أن هذه المنصات الرقمية انتقائية جدًا فى اختيار الصالح والطالح على أثيرها، وانتقائية جدًا جدًا فى اختيار الوقت الذى تتدخل فيه لحجب الطالح وترك الصالح.
والقرارات الأخيرة الصادرة من هذه الشركات بحجب وحظر حسابات الرئيس الأمريكى ترامب المنتهية ولايته ملونة بألوان السياسة وغارقة حتى أذنيها فى المصالح. وهذا ليس دفاعًا عن ترامب أو حبًا لتغريداته وتدويناته، لكنه دفاع عمّا تبقى منّا فى هذا الجزء من العالم من إنسانية ورغبة فى الخروج من بالوعة الخطاب المشوه الذى أغرقنا فى غياهب العصور الوسطى.
فإذا كانت تغريدات ترامب وتدويناته وفيديوهاته فيها ما يحض على العنف والفتنة وتخريب المجتمع وضرب وحدته وبث العنصرية ونشر الكراهية، فماذا عن طوفان المحتوى المرئى والمسموع والمكتوب الذى يحمل معاول هدم دموية فى متناول نقرة واحدة؟!، هذا الطوفان من «الخطب»، التى تبث سمومًا ذات قوة قتل ثلاثية: تخريب العقول، نشر الكراهية، وبث الفوقية المبنية على جهل مدقع؟!.
لم يعد الموضوع مقتصرًا على شرائط كاسيت تُباع على الأرصفة لمَن يؤكد بالصراخ والعويل أن الفن حرام وأن المرأة حرام وأن العيشة واللى عايشينها حرام. كما لم يعد مقتصرًا على «داعية» مودرن يجوب النوادى الرياضية مخبرًا الطبقات المخملية أن التحدث مع «النصارى» مكروه، أو «عالِم» ببدلة يفنى حياته وحياة المشاهدين فى تركيب كل بحث وابتكار علمى آتٍ من بلاد بعيدة على مقاس الدين وليس العكس معتبرًا ذلك بحثًا علميًا فريدًا، أو إمام مُفوَّه يخبرنا أن نقل الأعضاء حرام وتهنئة المسيحيين حرام وخروج المرأة حرام، أو غيرهم. المنصات الرقمية مُتْخَمة بمَن يبث كراهية وفتنة ورجعية وجهلًا وخرافات، لكنها مازالت مُصنَّفة من قِبَل لجان حكماء السوشيال ميديا على أنها «حرية تعبير وكده».