بقلم: عبد الله السناوي
أوائل خمسينيات القرن الماضى منع أحد الرقباء بالجهل والتعسف إذاعة أغنية «أم كلثوم» «ولد الهدى» على أثير «صوت العرب»، بحجة أن الثورة ألغت الملكية وألقاب الأمراء فى اعتراض على كلمات وردت فى القصيدة المغناة لأمير الشعراء «أحمد شوقي»!
ثم بدا له أن يلغى سجلها الغنائى كله من البث على بقية الموجات الإذاعية بدعوى أنها تنتسب لـ«العهد البائد».
نفس الرقيب طلب من الشيخ «طه الفشنى» الامتناع عن قراءة آيات من سورة الأحزاب خشية أن تمس الجيش! ــ على ما روى فى مذكراته غير المنشورة «أحمد سعيد» مؤسس «صوت العرب».
كان ذلك نذيرا أن تخسر ثورة يوليو سمعتها واحترامها عند خطوط البداية.
بنص توبيخ «جمال عبدالناصر» للمسئول العسكرى عن الإذاعة: «لم يتبق أمامك غير أن تذهب بجنودك لهدم الهرم الأكبر فهو أيضا من العهد البائد».
لم يكن ذلك التعبير رمزيا بقدر ما كان تلخيصا لنظرته إلى «أم كلثوم» هرما أكبر يلهم صوتها الوجدان العربى المشترك.
كان هو نفسه مفتونا بصوتها، يحفظ أغانيها، ويرددها كلما أتيحت الفرصة أمامه أن يختلى بنفسه.
ثم أنه كان يدرك أهمية الدور المحورى الذى يمكن أن يلعبه الفن فى كسب القلوب إلى القضايا الكبرى والمعارك التى تنتظر البلد.
لم تكتسب «أم كلثوم» نفوذها الأدبى من سلطة، أيا كانت تلك السلطة، وساعدها ذكاؤها فى تطوير قدراتها وملاحقة العصور المتغيرة.
قوتها الأخلاقية لاحقت فرادتها الفنية.
حافظت على صداقاتها، إذا ما تغيرت العصور والأحوال.
«فيها شهامة الريف المصرى» ــ بتعبير الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
التقت حنجرة سيدة الغناء العربى «أم كلثوم» بألحان موسيقار الأجيال «محمد عبدالوهاب» ــ لأول مرة ــ فى أغنية «أنت عمرى» بطلب من «عبدالناصر».
شارع شبرا توقفت حركة المرور فيه، والمصريون انشغلوا يومها بالحدث الفنى، الذى وصفه الناقد الفنى «جليل البندارى» بـ«لقاء السحاب».
«عبدالناصر» استمع للأغنية من راديو سيارته وهو متوجه لاستراحة برج العرب.
لزم أولاده الصمت ولم يتبادلوا الحديث فى الرحلة على الطريق.
فى الخميس الأول من كل شهر كان يستمع ــ بمفرده ــ لحفلة «ثومة» المذاعة على الهواء مباشرة أثناء قراءة التقارير الرسمية والصحف، شأن أى مواطن عربى آخر من المحيط إلى الخليج.
عندما لا تمكّنه ظروفه من سماعها يطلب الشرائط من الإذاعة – كما روى لى صديقى الراحل الدكتور «خالد عبدالناصر».
إذا جاز التعبير فإنها عصامية، فتاة ريفية فقيرة من دلتا مصر، علمت نفسها بنفسها، وشقت طريقها فى الصخر بموهبتها وحدها.
فى المسلسل التلفزيونى «أم كلثوم» حاول السيناريست الكبير «محفوظ عبدالرحمن» أن يمسك بخيوط قصة نجاحها للإجابة على سؤال واحد: كيف تمكنت رغم ظروفها الصعبة من أن تصل إلى المكانة التى وصلت إليها؟
قصة نجاحها بذاتها ملهمة لقدرة الإنسان على التحدى وتذليل كل الصعاب.
منذ ثلاثينيات القرن الماضى حمل أثير الإذاعة عبقرية صوتها إلى كل مكان فى العالم العربى.
كان صوت «أحمد سعيد» يدْوى بنداء العروبة وصوت «أم كلثوم» يضفى على المشهد وحدته الوجدانية.
نجحت «صوت العرب» بقدر ما انفتحت على قضايا عالمها العربى، وبقدر ما نقلت عبر الأثير أصوات المطربين المصريين الكبار، وفى مقدمتهم «أم كلثوم».
لا يمكن إنكار دور صوتها العبقرى فى توحيد العالم العربى أمام التحديات الوجودية التى كانت تعترضه فى سنوات الصراع على المنطقة طلبا للتحرر الوطنى والاستقلال والوحدة.
كان ذلك عصرا من الوجدان العربى المشترك.
إذا كان «عبدالناصر» يلخص بسياساته ومعاركه الزعامة السياسية للفكرة العروبية، فإن «أم كلثوم» لخصت الزعامة الفنية للفكرة نفسها.
لم تكن وحدها، لكنها كانت العنوان الأبرز لمصر الكبيرة بأدوارها وأوزانها فى عالم جديد قبل أن تحل عليه الإحباطات المقيمة.
رغم اختلاف الأزمان وانقضاء الأجيال فإن إرثها الغنائى لا يزال الأكثر استماعا وتأثيرا فى أرجاء العالم العربى، كما لو كان عنوانا مستأنفا لما تبقى من أحلام وحدة حلقت ذات يوم، كأنها لم تغب منذ فبراير (1975).
إذا أردنا أن نلخص القوة الناعمة المصرية فى رمز واحد، فهو «أم كلثوم».
فى لحظات الهزيمة، كما لحظات الصعود، برزت سيدة الغناء العربى فى مقدمة المشهد.
كان ذروة مجدها الدور، الذى لعبته أعقاب هزيمة يونيو (1967)، حيث هبت لدعم وطنها الجريح، قادت حملة ناجحة تبرعت فيها السيدات ببعض ما لديهن من حلى ذهبية للمجهود الحربى، زارت للغرض نفسه دولا عربية عديدة غنت على مسارحها، استقبلت كما يستقبل الزعماء العظام بحفاوتين رسمية وشعبية.
فى باريس على مسرح الأوليمبيا عانقت المجد كما لم يعانقه فنان آخر عربى، أو غير عربى، زحفت إلى العاصمة الفرنسية أعداد كبيرة من الجاليات العربية فى المدن الأوروبية، ومن العالم العربى نفسه بالطائرات للاستماع إلى سيدة الغناء العربى.
بهت الفرنسيون بما رأوه يجرى أمام أعينهم من مشاهد توحد فى الوجد مع صوت «أم كلثوم».
فى لفتة مؤثرة أرسل لها الزعيم الفرنسى «شارل ديجول» برقية تحية تقدير قبل أن تغادر طائرتها أراضى بلاده.
كان ذلك مشهدا استثنائيا لخص عصرا كاملا من الغناء العربى والوجدان العربى فى لحظة تحدٍ وجودية، أكد أننا أمة عربية واحدة، ذائقتها واحدة وجرحها واحد.
بعد سنوات قرب منتصف سبعينيات القرن الماضى زارت العاصمة الفرنسية فرقة موسيقى عربية أسسها المايسترو «سليم سحاب» فى بيروت.
أثناء انتقال الفرقة على إحدى الحافلات أخذ الموسيقيون اللبنانيون الشبان ينشدون أغنية «أم كلثوم»: «على بلد المحبوب ودينى» من كلمات «أحمد رامى» وتلحين «رياض السنباطى».
تصادف أن كان أغلب ركاب الحافلة العامة مغاربة، فأخذوا بدورهم يلعبون دور الكورس.
بتوصيف «سليم سحاب»، فإن تلك الواقعة التى جربت بالمصادفة لخصت على نحو فريد وحدة الوجدان العربى، فالفرقة لبنانية والكورس مغربى والأغنية مصرية.
قوة حضور وإلهام «أم كلثوم» الممتد كظاهرة سياسية وفنية ــ هنا ــ بالضبط.