بقلم: نشوى الحوفى
كانت روايتها «الدكتورة هناء» بداية التعارف بيننا، لتصدمنى الفكرة وتضرب رأسى بتساؤلات، تأسرنى المعالجة والأسلوب وامتلاك مقود العبارات.. لأدرك أننى أمام كاتبة تعرف معنى الغوص فى النفس البشرية والسعى وراء الإجابات بداخلها لقضايا ربما لم يجرؤ غيرها على طرحها برقى وإخلاص للشخصيات، فهى تناقش حياة أستاذة جامعية تخشى مجىء الأربعين قبل أن تُرزق بمن يتعامل مع مشاعرها كأنثى تعانى الإحباط الداخلى رغم إنكارها لكل فشل مرت به فى مسيرتها حتى فى الحب.
لم أكن أعلم أن لريم رواية أولى فى العام 2005 وهى «رائحة البحر»، لتتوالى القراءات والإصدارات لريم بسيونى، لتؤكد أنها لا تسعى للوجود أو إثبات الهواية بقدر ما تبحث عن تشخيص لأزمتها المُنقبة عن الهوية. نعم يمكنك رؤية ريم بين سطور رواياتها وهى تشدك للبحث معها عن الهوية بكل ملامحها ومسمياتها، فهى الباحثة عن هوية الإنسان وهوية الأوطان وهوية الجذور وهوية الفكر وهوية التاريخ دون تحيز أو إغراق فى الذات وما تؤمن به. هى فقط تستعرض ما يدور فى النفس وكل النفوس بمشاعر بشرية مجردة، فتشير لمن يقرأ على مواطن النور فى الطرق المظلمة وتفتح آفاقاً لأفكار وإسقاطات ربما مرت على البال وتراجعت أو ربما لم تجد من يسلط عليها الضوء لتصبح فى بؤرة الوجدان.
من هنا لا يمكنك الحكم على ريم بسيونى وما أبدعته من روايات وحصره فى روايتها الأشهر وأيقونة تجاربها الأدبية «أولاد الناس.. ثلاثية المماليك» التى غاصت عبرها فى فترة من أشد فترات تاريخنا التباساً ألا وهى الحقبة المملوكية وحتى احتلال العثمانيين لمصر عام 1517م. فنحن لم نورَّث الأحداث كما جرت بل حسب الأهواء ومن يكتب التاريخ، فحينما نبحث عن انتصاراتنا ومبعث فخرنا نتحدث عن انتصار المماليك على التتار والصليبيين وآثارهم الإسلامية وسيادتهم للبحر والبر حتى كانوا خدَمة الحرمين الشريفين قبل أى خادم حديث. وحين نسعى للتقليل منهم نعلنهم أولاد ناس.. أى أنهم ناس معدومو الهوية طغاة لا يبرحون الخمر ولا السرقة ولا التآمر على بعضهم، فجاءت ريم ببساطة وعمق فى آن واحد لتحسم الخلاف وتضعنا أمام الحقائق وأمام النفس البشرية دون تحيز.
ولكن لو أردت الاستزادة فعليك بقراءة رواياتها جميعاً ولن تندم، بدءاً من «الحب على الطريقة العربية» التى لا تطرح فقط سطحية العلاقة لدى الكثير منا بهويته المصرية والعربية كل حسب جنسيته مع طرح تساؤل دون فرض إجابة عن القتل حينما يكون مبرراً فى حال الخيانة، فهل يُعتبر إرهاباً وتطرفاً؟
وكذلك رواية «بائع الفستق» التى تثبت عبر أحداثها بإصرار كيف أن الهوية نقطة الانطلاق لهزيمة إرهاب العولمة والشعارات الرنانة والتمويل حتى ولو طالت لحظات الاشتياق والألم.
ثم تحكى فى روايتها «أشياء رائعة» قضية امرأة من فلاحات الريف المصرى تدرك ما تسعى له وتعرف أن بقاءها وخلودها فى انتصار أبنائها حتى لو تلاشت، ففى الأبناء الامتداد فى الزمن الذى لم يكن سهلاً بل كان مرهوناً بفهمها ووعيها لما عايشته من أحداث ومن واجهتهم من شخصيات تمتلك العلم والنفوذ والمال، بينما لا تملك سوى جذورها للدفاع عما تريد حمايته.
أما فى «مرشد سياحى» فهى تحكى عن الألم الإنسانى أياً كانت ملامحه ومهما اختلفت جنسيته، فالبشر يجتمعون فى المعاناة، والحقيقة أبداً لم يكن لها لون واحد.
ثم تأتى «سبيل الغارق.. الطريق والبحر» لتأخذك لعوالم من التاريخ الموصول وإن ظهر لك انفصاله، المتقاطع فى بعضه ولو بدا لك اختلافه.. فالشاطر حسن المهزوم فى أسطول الغورى، هو ذاته الباحث عن سبب ضرب الإنجليز للإسكندرية واحتلالها 1882، وهو ذاته المعلن لتأميم القناة 1956، وهو الحافر لقناة موازية للقناة الأصلية فى 2014، فالشاطر حسن واحد يتكرر فى التاريخ بالإدراك، المُبحر فى المجهول عله يصل.
نعم.. إننا أمام حالة أدبية سارت منذ بداياتها على طريق الوعى والإدراك لذاتها قبل محيطها مستبصرة بتاريخ ولغويات من الصعب اختزالها فى رواية ومن المستحيل عدم إكمال سطور ما قدمت.. وما زلنا فى انتظار القادم.