بقلم : سحر الجعارة
هل قدرنا أن نغرق كل فترة فى جدل يلهينا عن «الممارسة المدنية» لحياة مستقرة ينظمها الدستور والقانون ولا يتدخل فيها كهنة الدين؟ لم ينفض سيرك «الطلاق الشفهى» حتى الآن، وبعد مناظرات وكتابات عديدة وجدت أن سيل النقاشات المتدفق علينا من العمائم قد وصل إلى قمة الهزل، وأعنى بها إعطاء شرعية دينية «للزواج القولى»، أى الزواج الشفهى بدون توثيق!
لنعُد أولاً بالذاكرة إلى عامَى 2017 - 2018، حين بدأت الحكومة تحاصر الزواج القبلى فى شمال سيناء.. وتم استخراج 600 عقد زواج لكبار السن وشباب تزوجوا بدون أوراق رسمية.. واستمرت جهود المجلس القومى للسكان حتى الانتهاء من كل الحالات.
بعض هذه الحالات مضى على زواجهم عشرات السنين يقولون إنهم فى الماضى لم يكن توثيق زواجهم أمراً ضرورياً، ويتم بالكلمة فى وجود الشهود، هم من بين مئات من حالات لكبار سن وشباب من أزواج من أبناء شمال سيناء، لم يسبق لهم استخراج أى وثائق ورقية تثبت زواجهم، وأصبحوا يعانون مشكلات متراكمة من صعوبة تسجيل مواليدهم، مروراً بجميع ما يخصهم من أوراق رسمية ومنها شهادات الميلاد والرقم القومى.
وكلنا نعلم أنها ليست الحملة الأولى لتوثيق الزواج فى سيناء، بعد تحريرها، وأن طبيعة الحياة القبلية كفيلة بحفظ حقوق الزوجة والأطفال وكل ما يترتب على الزواج من آثار، لأن «الكلمة» هناك كالسيف ولا يمكن لأحد أن يتلاعب بالآخر.
المهم، ما الذى استدعى هذا المشهد، فى دفاعه المستميت عن وقوع «الطلاق الشفهى»؟ الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، عضو الجنة الاستشارية للفتوى بالأزهر، مع الإعلامية ريهام السهلى، فى برنامج «المواجهة» على قناة إكسترا نيوز، قال: «من قال إن النكاح لا بد أن يكون موثقاً، معظم الزيجات تتم فى المساجد بتقوم على الصيغة القولية، وحتى عند المأذون.. القول قبل التوقيع فى الوثيقة».. أضاف «كريمة»: «آلاف الحالات فى جمهورية مصر العربية يزوجون فى المساجد «زواجاً قولياً» لاعتبارات أن العروس لم تبلغ سن الرشد، أو لعدم وجود إثبات هوية.. واسألى الصعيد والواحات وسيناء ومطروح وحلايب وشلاتين.. كل هذا زواج قولى».. هكذا أنهى الدكتور كريمة وجود الدولة من أساسه «باسم الشرع»، وقنّن كل أشكال الدعارة أو الاتجار بالبشر (مثل تزويج الفتيات القصر فى قرية الحوامدية وبيعهن للأثرياء).. وأسقط من حساباته كل ما يترتب على الزواج من آثار، (قال إنه يستحل المعاشرة الجنسية)، فلا يوجد أطفال لهم حقوق ولا زوجة يمكن أن تعانى من إثبات نسب الطفل أو من إثبات زواجها أصلاً.. ولا ميراث للزوجة ولا للأطفال.. لقد ألغى الدكتور كريمة قانون الأحوال الشخصية وكأنه مجرد «ورقة كلينكس» ترميها، لأنه أباح ما سماه الزواج القولى!
لقد حاول المشرِّع تلافى المشكلات المترتبة على الزواج العرفى، (لأنه غير موثق)، فاعترف بإثباته بشتى الطرق القانونية فقط ليثبت حق الطفل فى النسب لأبيه وحق المرأة فى الطلاق حتى لا تعيش «معلقة» لرجل قد لا يكون من جنسيتها ولا تعلم حتى محل إقامته.. هذا ما نعرفه عن حفظ أعراض بناتنا وحقوق أطفالنا ولو فى النسب والنفقة.. لكننا فجأة أمام حالة شاذة وغريبة تستدعى «بوليس الآداب» فوراً لضبط أى رجل وامرأة يدعيان أنهما تزوجا «زواجاً قولياً»!.
ما يقوله أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر ليس تحايلاً على القانون وإهداره فحسب، (بالسماح بالتزويج دون السن القانونية أو إثبات الهوية)، إنه استدعاء لـ«ملك اليمين» لتعود المرأة جارية تحت راية شرعية من عالم دين لا يعترف بأن سيادة الدولة تمتد إلى سيناء وحلايب وشلاتين والواحات ومطروح!
لقد تحول «الطلاق الشفهى» إلى معركة سياسية يتصارع فيها قوتان: الأولى، ويمثلها «د. كريمة» وغيره، انحازوا إلى بيان «هيئة كبار العلماء» بالأزهر الشريف بشأن قضية الطلاق الشفوى، بعدما طالب الرئيس عبدالفتاح السيسى الأزهر ببحث مسألة توثيق الطلاق حفاظاً على الأسرة والمجتمع.. البيان الذى صدمنا جميعاً فى فبراير 2017، كان مكملاً لمسيرة الأزهر فى تكريس «الدولة الدينية»، وتنصيب رجاله أنصاف آلهة، يحتكرون أحكام الحلال والحرام، ويحكمون من خلالها الاقتصاد والطب والمجتمع.. أما الثانية: ويمثلها الدكتور سعد الدين هلالى، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، الذى قال من البداية: (رأى الأزهر له اعتباره وهو رأى فقهى وليس شرعياً والقائلون به من أهل الذكر لكنهم ليسوا ربنا.. فيه رأى آخر من أهل الذكر يقول بأن المتزوجين رسمياً يطلقون رسمياً مثل الشيخ «جاد الحق على جاد الحق» شيخ الأزهر الأسبق).. فكان منحازاً إلى مدنية الدولة وسيادتها على مواطنيها.
لكن المعركة، التى لم تخلُ من (ردح وتجريح)، أفرزت للمجتمع كارثة جديدة وهى «الزواج القولى».. والآن إما أن يصدر الدكتور كريمة بياناً يتراجع فيه عن فتواه ويحفظ للدولة هيبتها وللزوجين حقوقهما.. أو أن يصبح لزاماً علينا أن نتجاهل كل ما يصدر عن مؤسسة الأزهر من فتاوى، لأنها لا ترى سوى أن «الطيب هو الإسلام» وعلينا أن نركع لما يقوله!