بقلم: تمارا الرفاعي
وهكذا تستيقظ ذات صباح مع حقيقة أنك لم تعد فى الفئة الشبابية. أنت خرجت من الفئة تلك منذ سنوات إنما لم تدرك واستمريت بالتعامل مع نفسك وما حولك على أنك من جيل الشباب والشابات. تتجاهل علامات كنت قد رأيتها على غيرك على مدى سنوات فلا تلاحظ أن العلامات طالتك أيضا. ليست فقط علامات التقدم بالعمر التى أضفت على وجهك وهيئتك شبها كبيرا بوجوه كبار العائلة. هى أيضا كلمات وردود أفعال تظهر من قاع الذاكرة للمرة الأولى فتسكت فجأة لأنها ليست كلماتك إنما كلمات الوالد أو الجدة.
***
فى المرآة أنظر إلى عينى أمى، أو ربما هى نظرة أمى ترتد إلى. هو شهر ملىء بالتعازى، وكأن شبح الموت قرر أن يركز أعماله على محيطى ويسحب أمهات وآباء الأصدقاء. طبعا يزيد ذلك من فكرة أننى أكبر، فمع التقدم بالعمر يخرج من حولى الجيل الأكبر. لا أفكر بالموضوع ولا أرمى فكرة الرحيل على من أحبهم، ففى تصورى للحياة السعيدة سوف أجد صديقتى على الكنبة فى كل وقت أحتاجها فيه. سوف ترد أمى حين أهاتفها دوما لتعطينى وصفة طبق تقليدى من دمشق. سوف يستمر أبى بإرسال معلومات حول أشياء كثيرة أقرأ بعضها وأضع بعضها الآخر جانبا.
***
أنا أتقدم بالعمر لكن من سبقونى يقفون مكانهم. أى أننى ألحق بهم بينما هم لا يكبرون. هذا ما أقوله لنفسى عند كل تواصل مع أصدقاء أريدهم أن ينتظرونى كيف نكمل حديثا بدأناه منذ سنوات وانتقل معنا من بلد إلى آخر ومن مرحلة سياسية إلى مرحلة. ها أنا إذا ألحق بهم وأنضم إلى مجموعة أصبحت شاهدة على تغييرات لم تتوقعها أو لم أتوقع أنا زخمها.
***
فى الوقت ذاته هناك حياة يومية بتفاصيل متكررة ها هى مستمرة: ماذا نطبخ اليوم؟ هل دفعنا فاتورة الكهرباء؟ الطقس بارد لماذا تلبس ثيابا خفيفة؟ هل انتهيت من كتابة واجب المدرسة؟ ثم هناك طبقة من السريالية رمتها الجائحة منذ سنة على تفاصيل الحياة اليومية. هل أخذت الكمامة؟ هل عقمت يديك بعد عودتك من الخارج؟ هل من أخبار عن توفر اللقاح؟
***
يبدو أننى وغيرى نعيش الحياة فى ثلاثة إيقاعات على الأقل: الحدث اليومى وضرورة تحضير الفطور ومتابعة العمل وتصليح خزان الماء. والحدث العالمى المختصر بفيروس غير حياة البشرية. والإطار العام الذى تظهر فيه وجوه كثيرة تجلس على كنبة فى بلاد مختلفة تنتظرنى هنا وهناك بينما أكتسب أنا تجعيدة إضافية مع كل انتقال ومع كل كنبة.
***
للأمانة أنا أتمعن فى وجوه كثيرة طوال الوقت بحثا عن قصص تختبئ بين التجاعيد. كما أننى ألاحظ تغير لون الجلد تحت العيون وأحاول أن أخفيه دون أن أنجح. يقال إن أصعب امتحان هو قبول الذات والتعامل مع السن. يقال أيضا إن الرضا مفتاح القبول. أظن أن الرضا هو أصعب امتحان.
***
الصورة إذا هى لغرفة جلوس يجتمع فيها أصدقاء من مراحل وأماكن كثيرة. هم ينظرون إلى الكاميرا يعنى أنهم ينظرون إلى. أنا لحقت بهم فى مجلسهم هذا ففسحت لى صديقة مكانا قربها على الكنبة لأجلس. أنظر إليهم فأراهم كلهم متقاربين بالعمر. أنا نفسى أصبحت قريبة منهم عمرا فجلست معهم بعد أن وضعت على الأرض أمامى بقجة حياتى وحكاياتى. أظن أن الدخول إلى هذه الغرفة محكوم بحجم البقجة: لا يدخل إلى مجلس الأصدقاء هذا إلا من اتسعت بقجته لحكايات كثيرة، فيها الحب والترحال والشوق والحنين ورائحة زهر البرتقال. أو قد تحمل بقج الآخرين روائح أخرى وحكايات عن ناس لا أعرفهم لكن تظهر وجوههم معنا هنا فى الغرفة فيكبر الاجتماع.
***
مع كل سنة أكسبها فى الحياة، مع كل ندبة أمر بإصبعى عليها، مع كل خط أو بقعة جديدة على وجهى أتأكد أننى أريد أن أكون بين أشخاص كثيرين فى غرفة جلوس فيها كراسى وكنب تتسع لقصص وحكايات لا تنتهى. أريد أن يبقوا هنا، أن أندس على كرسى قربهم وأدخل مباشرة بالحديث دون مقدمات. لا فائدة من المقدمات مع من أعاشرهم منذ عقود أصلا، نحن نكمل قصص بعضنا البعض، نحن قطع ملونة نستقر على هيئة لوحة كاملة، نحن ننسج قصصنا الملونة وقد نتوقف أحيانا عن الكلام لكننا نستمر بالنسيج.
***
أعيش ثلاثة إيقاعات وأتمنى أحيانا لو أستطيع أن أمد تفصيلا واحدا كمن يمد قماشة لوحة على إطار خشبى: أتمنى أن أمد تفصيلا يوميا فيملأ قلبى، صوت ابنتى من بعيد، رائحة القرفة فى الشاى، عنوان كتاب تركه شريكى على الطاولة أى أنه مر من هنا منذ لحظات. الصورة إذا هى تفصيل حياتى ويومى شددته على إطار ليصبح لوحة أضعها فى بقجتى التى أعبر معها الأزمان وأرتمى وسط أصدقاء سبقونى إلى غرفة معيشة ملأوها ببقجهم. هناك تجبرنا الجائحة على الانتظار، إنما ها نحن ننتظر وسط من نحب ومع أصوات وقصص تتحدى الزمن. هى حياة بثلاثة إيقاعات.