علي أبو الريش
في معرض الكتاب في الشارقة، نون وما يسطرون، ودفق وأشياء من المكنون وأحلام تتدفق مثل جداول في أحشاء صحراء نبيلة، وأقلام ترسم الصورة على سبورة المشهد الحضاري، والانتماء وحده إلى الإنسان، إلى الأرض، إلى الكينونة.. وصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، كان في المشهد محور الكلام، بين الأنام، كان السهام والضرغام، كان الهفهفة عند سواحل القلب، كان اللغة التي نطقت بالمعاني الأصيلة، كان الفضيلة، أنعمت على الفكر فانداح وعياً كونياً، يؤسس مداره في قطب الشمس ويرسله الشعاع إلى البقاع، إلى ظلمات ما كان لها أن تسفر عن نور لولا قناديل وعي هذا النبيل، وصبره ومثابرته، ومبادرته في كسر حاجز صمت الوعي، ليبقى نافذة مفتوحة، وسراجاً يضيء خطوات الآخرين.. في هذا المعرض كان الوعي كتاباً وخضاباً وسحاباً، كان الوعي يخطب الود ويمد اليد، ويمتد مداداً يحرض الزائرين بكلمة اقرأ واقرأ، لأن القراءة منطقة لتفشي أسراب الحمام، وانتشار الفراشات بألوان المحبة.. في هذا المعرض في قنواته وممراته وشعابه وزقاقه، تكمن الحقيقة ويتجلى عملاق اسمه الكتاب، هنا تبرز طلائع ما جاش في الأسئلة، عن أول المسألة، وكيف بدأ الخلق عارياً ثم تلحف بالكلمة، لتكون اللسان والبيان والبنان والبنيان، لتكون أصل الإنسان وتكون الخلاصة والخلاص وتكون المهد والنهد في الوجدان. في هذا المعرض، في هذا المكان تتضاءل أمامك الأمكنة، ويختزل الزمان، في اللحظة الراهنة تباغتك بالعناوين وكأنها أجنحة الطير ملونة بالفرح، كأنها الزعانف مزخرفة بالحرية، كأنها الكون يعيد تشكيل نفسه من جديد وإلى الجديد ينحو وتنمو أضلاعه، ويتسع فضاؤه، في هذا المكان تجد نفسك تعثر على ذاتك المبعثرة، وقلبك يضيع بين أجنحة الكتاب.
تضيع أميتك، تضيع غيبوبتك، يضيع لا وعيك، تضيع الأشياء التالفة وتبقى أنت، يحادثك خير جليس، ويهديك ما أبدعته الملكات النابغات، يهديك الوجود بأكمله.. في هذا المعرض المقال المفصل وأنت المآل المفضل، أنت الزمان والمكان، أنت العنوان الرئيسي للبوح.
في هذا المعرض تتطهر العيون من تاريخها الضائع وتبدأ من جديد كتابة التاريخ، تبدأ في التاريخ لعالم يتكون مثل شرنقة الفراشات، تبدأ تجسيد الحلم على صفحات خد المعرفة عند أول منصة، عند أول حصة قراءة ليصبح التلميذ بعد ذلك، حصيناً فصيحاً، منعماً بحرف الضاد، منتمياً إلى القراءة قبل الكتابة.. في هذا المعرض، النحت بالكلمات يسرد حكاية أسرار ما قبل الحبر وما بعد ابتسامة نيوتن التي غيرت التاريخ، وكيف أن كوبر نيكس، خان وجدان الإنسان وخالف المواعيد مع الأرض، كما فعل داروين حينما فجر القنبلة التطورية، وانبرى مدافعاً عن كينونة الحيوان، ومثلهما فرويد حطم جدار الأنا بمعول لا شعوري شرس ومعادٍ للواقع، ولا يزال الكتاب يطرق أبواب فتوحاته، ويطلق طيوره كي تنبش في أتون الكون ليصبح الإنسان إنساناً.