علي أبو الريش
كنت في القرية المشمولة بالضياع، وتيه الأيام الجميلة، ففي العيد لم تعد الأزقة هي الأزقة، ولا الوجوه هي الوجوه، بل كان العيد وحده يتمشى على رمل الصمت، ويصافح الجدران، ويغسل إسمنتها المتآكل بدموع التذكر والتفكر والتبصر والتحسر، والتفطر، ويرفع الأسئلة للذين خبأوا ابتسامات العيد خلف سحابات الاغتراب والاستلاب، وفظاعة الصمت الرهيب.. «مريحانه» ذلك الزمن طوت سجلها، واختفت خلف أسوار وأطوار، وأدوار باهتة مثل وجوه الناس، الذين تواروا وواروا التراب على كل شيء زاهٍ وأنيق، اختفوا خلف مصفحات، زجاجها مثل جبال اغبرّت سماؤها، وليس إلا في التحايا الصباحية للعيد، غير أبواق خرساء، تزمجر كأنها البوح الخجول.. عاينت بحر الصغار و«سيفه» المتواري، تحت أقدام الغربة المتوحشة، ووجوه ما أنزل الله بها من سلطان وضحى غدا، يمضغ حثالة زمن، ويجتر نخالة أيام بدت مثل الحُلم الهارب، أو الغيمة الساربة، في دياجير وقت غير الأوقات.. والمرأة التي كانت تكحل العينين، بابتسامة الفرح، وتخضب اليدين، بحناء الصباح الأغر، ذهبت بعيداً مضت إلى حيث تمضي أزمنة المساحيق، وتسوم الوجوه بألوان أشبه بألوان الرسوم المتحركة، والفساتين التي كانت تفوح بعبق «السبوح» الصباحي، علقت على مشاجب النسيان، لينبري الكعب العالي، يسحب خلفه العباءات، الراعشة، مثل عربة خرقاء، ذابت عجلاتها إثر رقصة الجسد المحزوز بعنف الطور والغور، وصولة تكنولوجيا الجسد.
كنت هناك، أخبئ في جيب الفؤاد، أسئلة الوجوه والمسافات التي باعدت ما بين كف وكف، وما بين ثغر وابتسامة، حتى بدت السماء تمطر، ما أبداه الخنّس والليل وما عسعس، والوقت المتهدج وما تنفس، ولا شيء يذكرني بقريتي سواي، ولا شيء يأخذني إلى ذاك الناصع، سوى أقمار القلب التي ما زالت توحي بشيء من الوميض، وكأن البصيص، يتسلل من خلال خيام سالفة الذكر، وما يعرشون وكأن القرية النائمة تحت شرشف ذكرياتها الفائتة، تتهجى أسماء الذين مروا من هنا واليوم قد رحلوا، اليوم يغرق تحت موجات، توشوش باستحياء وتقول بوجل «المريحانه» لفت حبالها على خصر زمن متهور، فهوت في قاعٍ صفصف ثم غابت عن وعي المتأرجحين، حتى شاخت الأرض بما رحبت ولم يعد في الحسبان أن للصديق صديقاً، وأن للعودة إلى أناقة الماضي طريقاً، وأن.. وأن.. تفتح للأسئلة عيوناً، بحدقات مثل الشمس تفتش عن جمال الناس، ولباقة زمن، وأناقة شجن، وهديل حمامات تصغي له أشجار اللوز، فتلقي بثمارها على تراب المتعانقين، في صباح العيد مهنئين مباركين، داعين المولى عز وجل ألا تتخلى «المريحانه» عن عطر نساء يافعات هن أسورة الزمن وقلادته الثمينة.