علي أبو الريش
الفكر شجرة تسقى بماء المكرمات فتنمو، وتزهر، وتثمر، وتزدهر، وتملأ فضاء الناس بالأحلام الزاهية، والأيام المترفة.. ولم تورق الحضارات الإنسانية إلا عندما أصبح للفكر نهر من قراءة واقعية للحياة، وسبيل للارتقاء والنشوء من دون محابس طائفية، أو مجسات عرقية، أو أغلال لونية.. في العصر الروماني عندما اجتاحت روما أثينا وقضت على جدلية سقراط ومنطقية أرسطو، ومثالية أفلاطون، بدت الامبراطورية الرومانية مثل تمثال عملاق من شمع، يملأ الفراغ ولا يشبع نهم الإنسان إلى المعرفة، واليوم في عالمنا الإسلامي يبدو أن إمبراطورية جديدة تريد أن تزيح اللثام عن نفسها وتعبر الحدود، لتطيح كل ما بنته العقول السالفة وكل ما شيده التاريخ الإسلامي على مر القرون، هذه الامبراطورية الجديدة، اتخذت من السكين وقطع الأعناق وسيلة للارتفاع على أكتاف التاريخ، وتسلق المراحل، بعنجهية وهمجية، وعشوائية وغوغائية، والسكين الحادة لا عقل لها إلا عقل من أخفى وجهه وتسلح بسادية فظة غليظة، وعدوانية لا مثيل لها في التاريخ إلا في أفلام الرعب، وعند مصاصي الدماء.. ولو جاز لأصحاب السكاكين أن يقطعوا أجساد العالم إلى طرائق قدد لفعلوا، ولكن، كل هذا العنف وكل هذا السخف، وكل هذا الكلف لن يستمر، لأنه لا منطق إلا للحقيقة، والحقيقة هي أن الله منح الإنسان العقل ليفكر في إعمار الأرض، كخليفة لخالقه، ولا يدمر ولا يتذمر، ولا يعكر ولا يزجر ولا يضجر ولا يسجر ولا يفتر، ولا يدخر إلا ضمير الحقيقة.
اليوم، السيكوباتية، والذهانية وانفصام الشخصية، باتت قيداً محكماً يصفد أرواح القتلة ويدفعهم إلى التخلي عن القيم الإلهية، والاتجاه نحو تشطير العالم وتمزيق ملاءة الأمان، وتحويل الشريفات العفيفات إلى جوار يبعن في السوق السوداء وجز أعناق الأبرياء، وتحويل جثثهم إلى معالم تعبر عن بؤس الإنسانية وبئس من يشوه الصورة الإيمانية، ويعكر صفو المشهد، بما تجنيه الأيدي الملوثة بالحنث والخبث.. اليوم وفي الزمن الأول من القرن الحادي والعشرين تخرج من بين ظهرانينا، زمرة من الذين اعتقدوا أن الحقد يبني حضارة وهرق الدماء البريئة، يشيد أعمدة التاريخ، وتمزيق أوصال الأوطان يصنع مجداً، وتشريد الأطفال والكهول، يرفع شأناً، وتحطيم البنية الأساسية لكل مجتمع، يفتح أبواب السعادة، وتهشيم السيادة يزرع الانتصار.. وهكذا تمضي النفوس الأمّارة باتجاه إعادة الإنسانية إلى عصر الجمع والالتقاط وعري الإنسان وهو متعلق بغصن شجرة.. هذا ما يريد المتعسفون أن تصير إليه البشرية، بلا عقل ولا حقل ولا سهل ولا مقل، يريدون للبشرية أن تسقط تحت طائلة الجهل والمرض والفقر والحرمان، وغياب الأمان، وسوء الوجدان، يريدون للبشرية أن يموت الفكر وتحيا سكين الغدر والكدر، يريدون أن تصير الأرض قبراً كبيراً، يدفنون تحت ترابه كل ما يمت إلى العقل بصلة.