بقلم - غسان شربل
النوم كذاب. يصادقك حين تكون محتاجاً إلى السهر. ويقفل هاتفه حين تحتاج إليه. استيقظ قبل الفجر. شيء ما اقتاده إلى مكتبه. لا حركة في القصر فالليل سيد الأحكام. وحدهم يسهرون من اختارهم القدر لتمكين الآخرين من النوم.
ستمر ساعات قبل أن تدب الحياة في المكان. يتوافد العاملون والمستشارون وأصحاب المواعيد. فقدت اللعبة متعتها السابقة. تكررت من دون ما يحرس بريقها. نقص في الصلاحيات ونقص في الحظ. هكذا يتسرب السم إلى السلطة وهي أم الولائم.
لم يتغير المكتب عن البارحة. استوقفته الرزنامة المعلقة على الجدار. لا تغير موقعها ولا تبدل مواقفها. الرزنامة أصدق من الموالين والمعارضين. من العمال والمستشارين. تؤدي مهمتها بقداسة مملة ورتابة قاتلة. كل يوم تتنازل عن يوم. تتسلى بتبديد أوراق العمر. تتسلى بتبديد أوراق العهد. كل شيء يتغير في القصر. اسم سيده وأسماء الحاشية. تتغير المواضيع والمقاربات والاتجاهات. تتغير عواطف الناس حيال ساكنه. وكذلك مواقف السفراء وابتساماتهم المقتضبة. وحدها الرزنامة تشلح الأيام في نهر النسيان وتواصل أعمالها.
صوت الرزنامة غريب. يتبدل تبعاً للوقت ولأذن السامع. في بدايات العهود تشبه تكاتها انفجار الأسهم النارية في مدن عطشى للاحتفال. وبمرور الوقت يفقد الوقت بريقه. تتحول التكات أجراساً يتزايد قرعها عنفاً مع اقتراب موعد المغادرة. أحياناً تختلط التكات برائحة البكاء. حين يفلت الوطن من أصابع المواطنين. وحين ينهمر ماء العجز على حبر الأختام.
الرزنامة لا تكذب. لم ينجح المستشارون في تضليلها أو رشوتها. لم تتدرب مثلهم على التلاعب بالفصول ومفردات القاموس والدستور.
تقول الرزنامة ببراءة وقسوة إن الخريف يبدأ غداً. وهي محقة في حساباتها. ومن حقها ألا تغيّر عاداتها. ثم إن الخريف واحد من الفصول. ابن دورة طبيعية تتكرر. لا غرابة أن يأتي الخريف. المؤلم أن تهب رائحته قبل قدومه. أن يأتي وكأنه مكلف بالثأر. هذا الخريف أكثر خطورة من تساقط الأوراق وانكسار الجذوع وانهمار الأمطار. هذا الخريف أخطر من أي خريف.
يتمشى الرئيس ميشال عون في مكتبه.
ذات يوم كاد يعتقد أنه محظوظ. دخل القصر رئيساً منتخباً وبأكثرية صريحة. حملت رئاسته في بدايتها تواقيع من خاصمهم طويلاً: سعد الحريري ووليد جنبلاط. حملت أيضاً توقيع من عاداهم بلا هوادة: «القوات» وقائدها سمير جعجع. قصته مع نبيه بري مختلفة. إنه حليف حليفه لكن الكيمياء لم تحضر بينهما لا في السابق ولا الحاضر وكل منهما يتقبل الآخر كالملزم بتناول دواء مر. لا يريد الاعتراف أمام نفسه بدور الحظ. لولا دم رفيق الحريري لما انفتحت أمامه أبواب العودة بلا شروط. كان عليه المرور في امتحانات دمشق وعنجر معاً وهو ما كان سيحوله طبعة منقحة من رئيس «عهد التطابق الكامل» الجنرال إميل لحود. ولولا دم الحريري لما قُيّض لسمير جعجع أن يغادر زنزانته.
اليوم يعتقد أنه سيئ الحظ. كم كان أفضل لو كانوا معه في القارب نفسه حين ظهرت غيمة الفطر القاتل فوق مرفأ بيروت. كان أفضل أن يكون الحريري وجنبلاط وجعجع بين ركاب القارب. هل أخطأ حين فضل الافتراق عنهم على تقبل المساكنة في ظل الود المفقود؟ وهل دفع ثمن الضعف البنيوي في قدرة صهره جبران باسيل على المحافظة على الصداقات وإن شائكة والتحالفات وإن مكلفة؟
يطرد من رأسه فكرة حديثة؛ الهجمات على أيامه: هل كان أفضل لو لم يعد إلى القصر بعد عقود من الغياب؟ وهل كان أفضل لو اقتدى بريمون إده واحتفظ بحريته وصورته وحقه في الرفض والانتقاد؟ هل كان إده يحاول في أعماقه الفرار من مهانة العجز التي توفرها الرئاسة في حين تحفظ المعارضة للسياسي بريقه؟
الرزنامة لا ترحم. لا تملك الأجهزة القدرة على اعتقالها لتوقف مقامرتها بالأيام. لا يملك الوسطاء قدرة على إقناعها. لم يبق من العهد إلا ما يزيد قليلاً على السنتين. للمرة الأولى يخاف من التفكير فيما يمكن أن يقوله التاريخ. في الماضي كان قوياً. وكان يعتقد أن التاريخ نفسه استدعاه لتخليص البلاد. وأنه دفعه إلى المنفى لتكون له عودة فخر الدين. ولم يكن يخشى التاريخ ولا موعد المثول أمامه. لم يعد مطمئناً. لم يعد واثقاً.
يكاد يعاتب الرزنامة على تجمع سوء الحظ في أيامه. استيقظ اللبنانيون فاكتشفوا أن الطبقة السياسية نهبت أرصدتهم من المصارف ورمت بجنى أعمارهم في المجهول. التفتوا إلى القصر. إلى الرجل الذي يفترض أنه قوي أو هكذا قال. لم يحدث شيء.
دوى انفجار هائل. اكتشف اللبنانيون أن نصف بيروت قد دُمر واختلط الركام بالجثث والجروح. أوسع عملية اغتيال على شاطئ المتوسط. جريمة نيترات الأمونيوم مؤلمة ومعيبة ومُذلّة. أقامت سنوات في المرفأ كطفل مفخخ تركه أصحابه وتواروا. لم يجرؤ أحد على فتح هذا الملف ولم تتجاوز «الوقاحة» حدود رفع العتب والتلطي. دفع الرئيس من رصيده ثمن القبول بإدارة شبه دولة وشبه جمهورية. دفع أيضاً ثمن ضلوعه في تصديع الجمهورية في مواعيد تشكيل الحكومات وانتخابات الرئاسة. دفع ثمن استناده إلى تحالفه مع «حزب الله» وعدم نجاحه في إقناع حليفه بعدم إحراجه أمام جمهوره.
خريف أقسى من أي خريف. لم يسبق أن تساقط اللبنانيون من «عبارات الموت» على طريق قبرص هرباً من الجوع الذي طرق أبوابهم ودخل. ولم يسبق أن تحصّن القصر وراء أكياس الرمل خوفاً من المتظاهرين إلا غداة اغتيال الحريري. ولم يسبق لبطريرك الموارنة أن أدان سياسات الرئيس الماروني على نحو ما هو متضمن في كلام البطريرك الراعي عن الوضع الحالي. ولم يسبق أن تكشفت صعوبات التعايش على نحو ما تفعل حالياً؟ إفلاس وعزلة وعقوبات كأن الخريف يطل قاتلاً على مريض يحتفل بمئويته الأولى وهو «جمهورية لبنان الكبير».
ماذا سيكتب التاريخ؟ يهاجمه هذا السؤال. خسر لبنان مرفأه في زمن ترتسم فيه ملامح جديدة في المنطقة وتوازنات جديدة. وخسر ليرته وجامعته والمستشفى. خسر سمعته وصورته. يمر قرب صور أسلافه في القصر ويشيح بوجهه. ماذا يقول لكميل شمعون وهو كان شديد الإعجاب بذلك الصياد الماهر؟ لا يريد التحديق في صورة بشير الجميل فقد يكون العتاب شديداً. لا يريد التوقف أمام صور إلياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان. يخالجه شعور أنهم سرقوا الرئاسة منه ولم يتركوا له القصر إلا ليجلس فيه وحيداً مع الرزنامة وبعدما صارت السنة من فصل واحد اسمه الخريف.