سؤالان كانا وما زالا يحيران البشرية منذ بدايات الوعى والمعرفة وحتى قيام الساعة، وهما: الأول سر الحياة والموت، والثانى أسباب قيام وسقوط الحضارات والأمم؟
السؤال الأول يمكن رده إلى خالق الكون، فهو وحده دون سواه المنشئ الأعظم للحياة والعالم الوحيد بسر الموت. أما كيف تعيش أو تموت الحضارات، فهو أمر يطول فيه الكلام ويصعب فيه الجزم بالقول الفصل.
كيف تسود الأمم، أو كيف ننهى سؤالاً حيّر الفلاسفة والباحثين والعلماء والساسة وصنّاع القرار والنخبة والعامة على حد سواء، لأنه سؤال وجودى مصيرى. هذا السؤال حاول الإجابة عنه الأستاذ عبداللطيف محمد بن عبدالعزيز الحميدان فى مؤلفه البحثى القيّم: «سنن قيام الحضارة وسقوطها قديماً وحديثاً مقارنة بابن خلدون». والكاتب ذو خلفية دراسات أمنية واستراتيجية، وحاصل على درجة الماجستير فى الفكر الإسلامى المعاصر.
ومنذ أيام وأنا أستمتع بمساهمة عربية بديعة فى هذا الكتاب الذى يلخص، برؤية مستنيرة وثقافة راقية، موجز تاريخ العالم، ومحاولة الإجابة عن سؤال التريليون دولار، بخصوص عوامل نشوء وفساد الحضارات.
يقع الكتاب فى 311 صفحة، وصادر عن دار العبيكان، وخصص الكاتب الجزء الأهم منه، أى نحو 3 فصول، تقع فى 169 صفحة، للحديث عن أسباب قيام وسقوط كل من الحضارات: السومرية والبابلية والإغريقية والفينيقية والفرعونية وروما القديمة والإسلامية، وصولاً إلى الحضارة الغربية «الأوروبية والأمريكية».
وقرر الكاتب أن يضع مرجعية للقياس فى الإجابة عن هذا السؤال التاريخى، فلجأ إلى فكر مقدمة مؤسس علم الاجتماع السياسى الفذ ابن خلدون الذى نذر حياته وفكره لمسألة: «عوامل صعود وفساد الأمم».
ويلاحظ الباحث، فى مؤلفه القيّم الذى استعان فيه بأكثر من 350 مرجعاً بالإضافة إلى رؤيته الشخصية، أن هناك مشتركات فى أسباب قيام وسقوط الحضارات منذ أول حضارة فى التاريخ، منذ 3500 سنة قبل الميلاد، وهى الحضارة السومرية، إلى الحضارة الغربية بشقَّيها الأوروبى والأمريكى، أهمها:
1- أن ضعف أنظمة الحكم وتنامى الطموح لدى بعض الجماعات عن طريق الحراك الاجتماعى يؤدى إلى خلق البيئة المناسبة للصراع السياسى.
2- أن الرغبة فى التوسع خارج الحدود ورغبة كل حاكم فى مد نفوذه على حساب البلدان المجاورة يؤدى إلى إضعاف وسقوط الحضارات.
3- أن الحروب الناتجة عن الصراع على السلطة أو على أراضى الغير تُضعف السلطة.
4- أن الفجوة الكبيرة بين الطبقات الاجتماعية وسيطرة النبلاء ومن شاكلهم على مر التاريخ، أو رجال الدين أو كهنة المعبد والأسر الحاكمة، على غالبية الثروات ومصادر الرزق هى أحد أهم أسباب ضعف وسقوط الحضارات.
وكانت الحضارة السومرية هى أول من عرف حالة «الصراع الطبقى» داخل المجتمع الواحد.
5- أن الفكر المستنير يصنع قاعدة صلبة لقيام الأمم، من أول شريعة «حمورابى» التى أسست لقيام الدولة البابلية التى وضعت أول قانون مدنى مدوَّن عرفته البشرية، إلى فلاسفة الإغريق، إلى فكر التوحيد لدى الفراعنة، وصولاً لمبادئ الفكر الإسلامى، إلى مساهمات مفكرى أوروبا وعصر النهضة، إلى العقد الاجتماعى فى فرنسا، وصولاً إلى سيطرة العلم على الفلسفة، والتكنولوجيا والاتصالات على أنظمة السياسة والاقتصاد.
عرفت البشرية فى بدايتها 3 تقسيمات للشرائح الاجتماعية: الطبقة الراقية، ثم طبقة العامة والفقراء، ثم العبيد والرقيق. وتطورت الأمور حتى أصبح الصراع بين «الحرية والاستعباد»، بمعنى أن تكون حراً إزاء السلطة والمجتمع ولا تكون عبداً لخوف من سلطان أو حالة عوز أو حاجة لاحتياجات أساسية أو خدمات حياتية لا غنى عنها.
ومن هنا يصبح السؤال الذى يطرحه الإنسان: كيف أتحرر من عبودية النظام، بمعنى أن تتوفر لى كافة احتياجاتى للاستغناء عن العبودية أو التذلل لنظام الحكم؟!
من هنا ظل العبد يناضل على مر التاريخ لكى يكون حراً مستقلاً.
ومن هنا أيضاً ظل الحاكم يسعى لإيجاد وسيلة أو نظام للسيطرة على مقادير المواطنين تحت أشكال مختلفة تبدأ بالاستبداد المباشر الصريح أو بالولاء لشكل ونظام الحكم، أو الانصياع تحت مظلة دولة القانون.
المهم عند الحكم السيطرة، والمهم عند الفرد هو الحرية، وتبقى الوسيلة فى السيطرة هى مسألة تلبية الاحتياجات.
وتوقفت طويلاً عند ملاحظة الكاتب حول قيام وسقوط الدولة الإغريقية، التى كانت قائمة على شكل النظام الملكى الذى اعتمد على تولية القادة العسكريين والمدنيين الملك.
كان هذا النظام يقوم على هيبة الملك واحترامه مقابل قيام الحاكم بحماية المدينة وسكانها وتوفير احتياجاتهم الأساسية.
وعرف النظام وقتها ما يُعرف بمجلس الشورى الاستشارى الذى يساعد الملك فى أمور الحكم.
والمتابع للدورة التاريخية لقيام وسقوط الحضارة الإغريقية يمكن أن يلاحظ أنها مرت بأربع مراحل هى: مرحلة الملوك، ثم النبلاء، ثم الطغاة، وأخيراً: مرحلة الحكم الديمقراطى.
وبحساب التاريخ وأعداد السنين سوف يلاحظ أن أطول فترة سادت فى هذه الحضارة هى فترة «عهد الملوك المحترمين»، أما أقل فترة فهى فترة ما يُعرف بالعهد الديمقراطى.
ويلاحظ على مر التاريخ أن إقامة الديمقراطية من ناحية الشكل دون التأسيس الصحيح تؤدى حتماً إلى الفوضى والتشرذم والصراع على السلطة، وبالتالى سقوط الحضارة وضياع الأمم وسقوط الدول.
ويلاحظ أيضاً الكاتب أن أحد أسباب انهيار الأمم والحضارات هو استغلال الإنسان للإنسان، وفرض رسوم وضرائب، واستحالة مواجهة أعباء الاحتياجات الأساسية للإنسان فى ظل مجتمع يقوم على الفساد وعدم العدالة فى التعامل مع الثروات. ومن المذهل معرفة أن العبيد كانوا أحد عناصر قيام الحضارات بدورهم فى اقتصاد السخرة وتوفير الأمن للحاكم والخدمة القهرية فى الجيوش، كما حدث فى حضارة أسبرطة والفراعنة وبدايات أوروبا.
ويتوقف الكاتب طويلاً، وباهتمام، عند أسباب نشوء وقيام الحضارة الإسلامية الأولى التى ارتكزت، مع اعتمادها على القرآن والسنة، على 4 ركائز أساسية:
1- الشورى، أى الرجوع إلى أهل الاختصاص فى الأمور التى لا يوجد فيها نص شرعى.
2- قاعدة العدل من غير إفراط ولا تفريط.
3- قاعدة المساواة القائمة على عدم التفرقة بين الناس فى الحقوق والواجبات.
4- قاعدة الحرية، بمعنى الإذن للإنسان بالتصرف فى شئونه كلها بما لا يخالف الشريعة.
ويتضح أنه حينما فهم والتزم المسلمون الأوائل بهذه القواعد الأربع التزاماً واعياً وصارماً وطبقوها باقتناع وإيمان، خاضوا حروب الردة وانتصروا، وفتحوا العراق وإيران، وأنشأ معاوية أسطولاً حاصر القسطنطينية (699م)، وانتزعوا شمال غرب أفريقيا من البيزنطيين، ووصلوا إلى جزيرة أيبريا (710م)، وفتحوا السند (711)، واجتاز بنو أمية مضيق جبل طارق (712م)، وكانت بدايات فتح الأندلس.
وخلق فكر هذه النهضة نظاماً إدارياً خاصاً يجمع بين خصوصية الحالة العربية الإسلامية وفهم وهضم تجارب العالم المتقدم وقتها، وقامت على نظام سياسى هرمى يضع الخليفة أو الإمام فى المقدمة، ثم الوزير المفوض، ثم وزير التنفيذ، فأمراء الأقاليم والأمصار، ثم أمير الجيوش، فالقاضى والمحتسب.
ويلاحظ الكاتب أن الدرس المستفاد أن الخليفة لا يمكنه حراسة الدين والدولة وسياسة الدنيا بمفرده، إلا أن ذلك لم يمنع مركزية القرار فى يد الخليفة.
وبالرجوع إلى فكر ابن خلدون فإن قيام الأمم وفسادها كان، وما زال وسيظل، قائماً على العصبية.
ويأتى فساد الأمم حينما يتبدد مفهوم «السلطة المشتركة» الذى أجمع عليه أصحاب السلطة عند قيام دولتهم.
ويرى ابن خلدون أن فساد الأمم يقوم على شعور الحكام بالتكاسل والتوقف عن رعاية واستمرار العمران الذى بدأوه وركونهم إلى الراحة، مما يؤدى -حتماً- إلى فساد العمران.
لو كان الأمر بيدى شخصياً لطلبت من السلطات التعليمية تدريس هذا الكتاب القيّم فى المدارس، حتى يعرف أبناؤنا وبناتنا أن الحضارة تقوم على وعى وإخلاص الناس، وتفسد بخيانتهم وتكاسلهم وفسادهم.
وختاماً.. شكراً للمؤلف على إنجازه المحترم.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن جريدة الاتحاد