سجعان القزي
طالما أنَّ تظاهرةً تطالبُ بنزعِ سلاحِ حزبِ الله محظورةٌ، ما بالكُم بتنظيمِ أخرى تُطالب بنزعِ سلاحِ الجيشِ اللبناني! لِـمَ الازدواجيّةُ؟ جيشٌ واحدٌ يكفي. ستمرُّ التظاهرةُ بسلامٍ. لن تحصُلَ ضربةُ كفّ. لن يَجريَ تكسيرُ وسَطِ بيروت. لن تتوغَّلَ درّاجاتُ عينِ الرُمّانة في الشيّاح ولا شبابُ حيِّ سرسق في الخندق الغميق. لن يَشتُمَ مواطنٌ هَاجَرْ زوجةَ إبراهيم الخليل، ولا راحيل زوجةَ يعقوب، ولا إليصابات زوجةَ زكريّا. لن يَتّهمَ ابنُ امرأةٍ ورجلٍ المتظاهرين بتنفيذِ أَجَنداتٍ خارجيّةٍ وبتلقّي توجيهاتٍ من سفارات. سيكون ذلك اليومُ عُرسَ الديمقراطيّة...
الاستحقاقاتُ تَقترِب. لقد وصَلنا مرحلةَ أن نختارَ بين جيشين إذا أردنا أن نَبقى في ظِلِّ دولةٍ واحدةٍ موحَّدة: إمّا جيشُ الدولةِ اللبنانيّةِ، وإمّا جيشُ حزبِ الله. ما عاد حزبُ الله ميليشيا ولا مقاومةً لكي نُبرِّرَ احتفاظَه بسلاحِه موقَّتًا، إنّما جيشٌ كاملُ المواصفاتِ والهيكليّة. وبمنأى عن الأثمانِ التي دَفعها لبنان، أثبتَ هذا الجيشُ جدارةً في مقاومةِ إسرائيل قبلَ سنة 2000 وأَخرَجَها، وفي مواجهةِ إسرائيل في حربِ 2006 وصَمَد بوجهِها، وفي حروبِ المساحاتِ في سوريا والعراق واليمن وعاد واثقًا وواضعًا سلاحَه خارجَ قيدِ التفاوض.
"الميثاقيّةُ العسكريّة" القائمةُ منذ سنواتٍ بين الجيشِ اللبنانيّ وجيشِ حزب الله ستَقضي على الميثاقيّةِ الوطنيّةِ بين اللبنانيّين. ما أردنا لبنانَ تعايشَ جيوشٍ وأسلحةٍ، بل تعايشَ أديانٍ وحضارات. ما من دولةٍ في العالم تعيش هذه التجربةَ اللبنانيّةَ الغريبة: جيشان في دولةٍ واحدةٍ، وكلٌّ منهما مستقِلٌّ عن الآخَر. عَرِف التاريخُ جيشًا واحدًا لدولتين (الإمبراطوريّات وولاياتُها)، لكن الإنسانيّةَ لم تَشَهد جيشين في دولةٍ واحدة، ألّلهٌم إلا إذا كان الجيشان يَقطُنان في اللادولة.
بعد مرورِ نحو أربعينَ سنةً على ظاهرةِ سلاحِ حزبِ الله، لا بدّ من حديثٍ عقلانيٍّ بعيدًا عن تعبيرِ "نزع السلاح" كأنَّ حزبَ الله بندقيةٌ ونِصف. لا يكفي تاليًّا أن نطالبَ بتنفيذِ القرارِ 1559 الذي لم يُنفّذ في عزِّ "ثورةِ الأرز" و14 آذار والدعمِ الأميركيّ، فكيف به الآن؟ مرجِعيّةُ الدستورِ والشرعيّةِ تعلو على أي حُجّةٍ أخرى: إما أن نكونَ جيشًا واحدًا في دولةٍ واحدةٍ، وإما أن نكونَ جيشين في دولتين وإما أن نكونَ جيوشًا مناطقيّةً في دولةٍ فدراليّة. وإذا كان خياري الشخصي جيشًا واحدًا في دولةٍ واحدةٍ لا مركزيّة، فمسارُ الأمورِ مختلفٌ تمامًا عن هذا الخِيار الوطني، إذ إنَّ تَعذّرَ حلِّ تعدديّة السلاحِ منذ "اتّفاقِ الطائف" إلى اليوم، سيؤدّي إلى الانزلاقِ في الفدراليّة. وما لم نجِدْ، نحن الحريصين على الوِحدة، حلولًا جِديّةً لمشاكلِ لبنانَ بهيكليّتِه المركزيّةِ، فلا نَعتِبنَّ على الّذين يُفكّرون بالفِدراليّة. الناس كَفَرت والأحقادُ فاضَت...
ما لم تَطرأ تحوّلاتٌ إقليميّةٌ قاهرةٌ، ليس في واردِ حزبِ الله التخلّي عن السلاح. في نظرِ غالبيّةِ الشيعة، صارت البندقيّةُ ملازِمةَ وجودهم وهُويّتهم وعزّتهم. صارت مصدرَ أمنِهم وطمأنينتِهم وقوتّهِم. وخلافًا للمسيحيّين الّذين نَقلَهم العبثُ بسلاحِهم المقاوِم من الريادةِ إلى الإحباط، كان الشيعةُ، قبلَ السلاح، يَعتبرون أنفسَهم في الصفوفِ الخلفيّةِ وبعدَه صاروا في الصفوف الأماميّة. قبلَه كانوا مجموعةً لبنانيّةً عاديّةً وبعدَه صاروا شبهَ دولةٍ شرقِ أوسطيّة. قبلَه كانوا عِبئًا على الدولةِ بعدَه صار العِبءُ متبادَلًا بينهم وبين الدولة. قبلَه كان الجَنوبُ أرضَ احتلالٍ واعتداءاتٍ وبعدَه صار أرضَ تحريرٍ وصمود. والشيعةُ، كجماعةٍ وَجَدت كِيانَها، متمسِّكون اليومَ بسلاحِ حزبِ الله أكثرَ من التزامِهم بسياسةِ حزب الله.
انطلاقًا من هذه القوّةِ العسكريّة، المضافةِ إلى القوّةِ الديمغرافيّة، يَطمحُ الشيعةُ إلى دورٍ أوسعَ في الدولةِ اللبنانيّة، بل إلى إطارٍ دستوريٍّ جديدٍ في مجرى التغييرِ الشرقِ أوسطي ومشروعِ الأقلّيات. يعتبرون أنهم صُرِّفوا كـــ"ضميرِ الغائب" لدى تشكيلِ دولةِ 1920 وميثاقِ 1943 واتفاقِ الطائف 1989، ولا بدَّ من تصحيحِ الهفْوةِ ورَدْمِ الـهُوّة.
بقدرِ ما هذا الشعورُ مسألةٌ فيها نظر، تحقيقُه إشكاليّةٌ في إطارِ الحالةِ الدستوريّةِ اللبنانيّة. مطالبُ الشيعةِ الدستوريةُ في مأزَقٍ لا يَقِلُّ عن مأزقِ الاحتفاظ بالسلاح. ولذلك نَعَت المرجعيّاتُ الشيعيّةُ في عيدِ الفِطر الأخير النظامَ والصيغةَ والدستورَ والميثاقَ. كأنها تريد "تصفيرَ" لبنانَ قبل استعادةِ "مديونيّتِها الدستورية". سببان على الأقل يعيقان تلبيةَ "الزياداتِ الدستوريّة" للمكوِّنِ الشيعيِّ: إذا أعطيت هذه الزياداتُ من حساباتِ مكوّناتٍ أخرى ستُواجَه بالرفضِ وستولِّد غبنًا آخر، وأصلًا لا يملِكُ أيُّ مكوِّنٍ فائضَ حقوقٍ وصلاحيّاتٍ ليتنازلَ عنها. كلّنا شيعة... وإذا عولِجَ الطموحُ الشيعيُّ بتعزيزِ صلاحيّاتِ المؤسّساتِ الـمُناطةِ دستورًا وعُرفًا بالطائفةِ الشيعيّة كالمجلسِ النيابي، فسيَتمُّ ذلك على حسابِ توازنِ السلطاتِ في النظامِ الديمقراطيّ وقد اختَلَّ بما فيه الكفاية بعدَ اتفاقِ الطائف.
لذلك لا حلَّ لأيِّ طموحٍ دستوريٍّ أو أمنيٍّ للشيعةِ والسُنّةِ والدروزِ والمسيحيّين إلا بتوسيعِ الصلاحيّاتِ المناطقيّة وليس باقتطاعِ صلاحيّاتٍ مركزيّة. فتركيبةُ النظامِ المركزيّ عاجزةٌ عن تلبيةِ طموحاتِ المكوّناتِ لأنَّ هذه الطموحاتِ تجاوزت الدستورَ وحتى الكيان. في اللامركزيّةِ الموسّعةِ تمارسُ المكوّناتُ اللبنانيةُ دورَها وخصوصيّاتِها في بيئاتِها وتُقيمُ الاستقرارَ والأمنَ والإنماءَ وتُنظِّمُ الضرائبَ وتُنشِئ الجامعاتِ والمؤسّساتِ الاقتصاديّة في ظلِّ جيشٍ واحدٍ ودولةٍ واحدةٍ. خلافَ ذلك سيبقى لبنان موحَّدًا من دونِ وِحدةٍ ومُقسّمًا من دون تقسيمٍ إلى أن يأتيَ مَن يَحسِمَ مصيرَه بقوّة ما. السوابقُ كثيرةٌ في تاريخِنا الحديث.
حين كانت الطوائفُ اللبنانيّةُ تعتبرُ أنّها مكوّناتٌ متكاملةٌ، حَمَلها النظامُ المركزيُّ. أما وكلُّ طائفةٍ تَعتبر أنّها صارت كونًا قائمًا بذاته، فلا يستطيع لبنانُ أن يَستوعبَها مركزيًّا. ليس لبنانُ أصغرَ من أن يُقسَّمَ فقط، بل أصغرُ من أن يَحمِلَ جيشين أيضًا. يجب أنْ نُصغِّرَ الجَـمَلَ ونُوسِّعَ خُرمَ الإبرة، لكنَّ الحاصلَ أننا لا نزالُ نُكبِّرُ الجمَل ونُصغِّرُ خُرمَ الإبرة، فيما لم نَعُد في زمنِ المعجزات.